إشْكَالِيَةُ العِلْمِ وَ الوُجُودِ الانْسَانِيّْ
لكم شهد تاريخ الانسانية ذلك النجم المتألق بالعطاء الحضاري المبين، ذلك الوعد المبشر بالخير من أعالي سماوات الوطن العربي الصافية، فينير للبشرية سبل خلاصها، عبر أحلك أزمان إرهاصات وجودها الظلامية المتوحشة ( أي: كما حدث للأمم الأوروبية أثناء نهوض الامبراطورية الرومانية المتوحشة و ما بعد سقوطها ).
و لكم تفاني معظم المفكرين الانسانيين في وصف حقائق هذا الرضا، وعَزْوِّ تألقه لصدق تمسك العرب الشديد بقوة العلم ( force of knowledge )، و لتجاهد مفكريهم الأخيار في إعلاء رايات ” مدرسة العلم العربية المجيدة ” في الخافقين. و منذ مطلع القرن العشرين و حتى اليوم، لاذ الكثير من أجيال العرب القوية برفعة هذه المدرسة الحضارية الانسانية العظيمة، باعتبارها ” مصدر تقدم بقائهم و نمائهم الفعلي في الوجود “، تاركين وراء ظهورهم معظم مغريات القوى الأخرى ( السلطوية، السياسية، المادية و ذلك على سبيل المثال لا الحصر ) و مؤكدين على التزامهم الوثيق بواجبهم العلمي الكبير في إطار أمر الله عزَّ و جلّ القائل: ” إنما يخشى الله من عباده العلماء ” ( القرآن الكريم، فاطر، 28 ). و منذ بداية التقدم العربي على طريق التحرر و الوحدة العربية، ما بين النصف الثاني من القرن العشرين الماضي و حتى اليوم، لم يتوانى العلماء العرب الأخيار عن: مرابطتهم عند ثغور مدينة العلم و رصِّ صفوفهم لتشييد بنى العلم العربية التحتية ( المدارس و الجامعات )، باعتبار هذا الفعل الحضاري المجيد يشكل قوام ” تجدد النهضة العربية ” عبر الأزمنة الحديثة التي تلت آثام الحربين العالميتين عبر القارة الأوروبية تحديداً. و بذلك تواكب نمو ” مدرسة العلم العربية ” مع فلاحات ” مدارس العلم الأوروبية ” الفريدة المشهودة. و لا بد لنا في هذا المقام من التأكيد على الرضا الذي وسم هيئات بعض ” أنظمة الحكم القطرية العربية ” و جعلها تتقدم باتجاه الافادة من هذا الحدث الحضاري – الانساني الكبير و إيفادها العديد من شباب العلم العرب لنهل المعرفة من مدارس الشرق و الغرب العلمية المتقدمة مباشرة، فكان أن شكلت الأفواج الرائدة هذه محرك تقدم البحث العلمي في مجتمعاتنا العربية منذ الربع الأخير من القرن العشرين و حتى اليوم. و حيثما توفرت لأجيالنا هذه حظوة وجود قادة وطنيين تأريخيين من أمثال الرؤساء الأمجاد هواري بو مدين، جمال عبد الناصر، حافظ الأسد، تسنى لنا تطوير وجود مؤسساتنا الأكاديمية العربية لتتحرك باتجاه مضاهاة نظائرها في العالم، و التأكيد على أن يتركز جهد البحث و التطوير العلمي العربي باتجاه تلبية حسن بقاء / نماء الشعب العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. و من هذا المنطلق التاريخي المشهود، نميز لِمَ كادت الجزائر و مصر( منذ أيام بومدين و عبد الناصر مثلاً) أن تحوز فعلاً تلك الأصول العلمية / التقنية لتنمية الطاقة الكهرونووية و تطبيقها عملياً كما تفعل الجمهورية الاسلامية العتيدة في إيران اليوم. و الآن، ثمة من تقوده الأخبار المتواترة حول ” تعثر حظوظ ” مدارس العلم الأوروبية و العربية خصوصاً، ليتساءل عن السبب الكامن وراء هذا التعثر. و لا نعتقد ثمة مشتغل بالعلم في العالم اليوم إلا و يعرف: ” بأن سادة إمبراطورية الظلام الرأسمالية – التلمودية هم الذين يحركون آلة القتل الحضاري هذه بدم بارد، كيف؟ “. و كي لا نرجع بالقاريء الكريم للوراء بعيداً في تاريخ هذا الاجرام ( و يمكن العودة لتفاصيل ذلك في بروتوكولات حكماء صهيون، تحقيق الأستاذ عجاج نويهض، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، لبنان، 1996 ) يمكن القول بأن ثمة ” موآمرة تلمودية كبرى على استراتيجية العلم العالمي ” تتلخص غايتها في ” تغييب استقلالية مدارس العلم الانساني الخيرة ” و إظهار وجود ” مؤسسات علم ظلامية شريرة ” تعمل لصالح القوى الراغبة في التفرد بأقدار العالم. و بعيداً عن الدخول في التفاصيل المثيرة للقهر و الغضب حول هذا التغييب في الوطن العربي سنتخذ من تجربة هذا التغييب في بريطانياً شاهداً مباشراً على طغيان هذه العقيدة. فمنذ أن كنا نتابع بحوثنا في بريطانيا، خلال عقد الستينيات من القرن العشرين الماضي و حتى اليوم، كنا و لم نزل نشهد ” غضب ” كبار علماء ” مدرسة العلم البريطانية “، على ذلك التواطؤ السياسي البريطاني الفاضح في هذا المسعى، و الذي يتجلى اليوم قوياً مع إشهار التخفيضات المهينة في تمويل البحث و التطوير العلمي البريطاني من جهة، و نتابع ” ثورة ” الرأي العام البريطاني و هو يتابع إشهاراً دورياً تقوم – بين الحين و الآخر – بنشره صحيفة التايمز اللندنية تحت عنوان: ” الأمريكان قادمون “، و هو إعلانٌ يحضُّ شباب العلم البريطان على الالتقاء بلجان انتقاء أمريكية و التعاقد معها للعمل في بعض مؤسسات البحث و التطوير الأمريكية من جهة أخرى. و تأكيداً لهذه الحقيقة اليوم، تضج الصحف الأوروبية عموماً، و البريطانية خصوصاً، بتفاصيل مثيرة حول هاتين الحقيقتين. الأمر المثير حقاً لمزيد من ” ثورة الرأي العام ” و ” الغضب الأكاديمي ” البريطانيين هو نشر الحقائق التالية:
أولاً: قرر المجلس الأعلى لدعم التعليم البريطاني ( HEFCE ) المضي قدماً بتخفيض التمويل المقدم للجامعات البريطانية إلى حدود 5 % ( أي حوالي 45 مليون جنيه إسترليني ) هذا العام، الأمر الذي سيؤدي إلى غياب ما لا يقل عن مليار جنيه إسترليني عن ميزانيات البحث و التطوير في الجامعات البريطانية خلال السنوات الثلاث المقبلة.
ثانياً: و بشكل مواكب لقرار الحكومة البريطانية أعلاه، سينخفض عدد المنتسبين للجامعات بقدر 16 ألف شاب،
ثالثاً: متابعة خفض، بل وقف، المنح الدراسية الجامعية المخصصة لشباب الأسر البريطانية الفقيرة، علماً بأنه سبق و هبط دخول الشباب الفقراء من 19.2 % إلى 12.7 % ما بين منتصف التسعينيات من القرن العشرين الماضي و اليوم، ( الغارديان، الخميس 28 كانون الثاني 2010 ، جيسيكا شبرد ). و بذلك أصبحت بريطانيا الأمة الشمالية الأولى في عدم المساواة بين ابنائها (أكد تقرير لجنة هيل الحكومية المنشور في 27 كانون الثاني 2010 على تعاظم عدم المساواة في المجتمع البريطاني.)،
ثالثاً: رفع الرسوم الجامعية من 3225 جنيه في العام إلى 7000 الف جنيه في العام،
رابعاَ: ثمة رفض لما لا يقل عن 300 ألف وظيفة في عضوية هيئة التدريس الأكاديمية البريطانية، تنسجم مع قرار الحكومة المشار إليه بدايةً، إضافة إلى إزالة ما لا يقل عن 15 ألف وظيفة قائمة، بذلك سيحل طلاب الدراسات العليا محل الأساتذة الكبار في التدريب و متابعة البحوث العلمية، و يتم دفن برامج البحث و التطوير الكبرى التي تتميز بها ” مدرسة العلم البريطانية “،
خامساً: وقف التوسع في المباني البحثية و التجهيز المخبري.
و تأسيساً على هذا الواقع العلمي المهين، يتهيأ الرأي العام الأكاديمي البريطاني لاضراب شامل ( كما أكدت صحيفة الغارديان البريطانية الأحد 7 شباط 2010 )، و من بين أبرز شعارات هذا الاضراب مثلاً:
• لا للخصخصة الهجينة لمؤسسات البحث العلمي الوطنية، فثمة حاجة أبدية لجامعات نخبوية تعتز بها مدرسة العلم البريطانية،
• لا لجعل الجامعات مقاراً للتسويق العلمي – التجاري الأمريكية،
• التخلي عن دعم الجامعات عمل بربري حقاً، و نحن بحاجة إلى متابعة التفاخر بنظامنا العلمي المبني على الحرية الأكاديمية و ليس على أساس المنفعة الرأسمالية البحتة،
• أوقفوا الوزراء الذين يبعون جامعاتنا للغير ( مثل الولايات المتحدة الأمريكية ) بأثمان بخسة (الغارديان 1 شباط 2010 )، بل جابهوا من يفلُّ قوة العلم و يشد الأحزمة على جامعاتنا و هي تؤدي واجبها المقدس في تحسين بقاء / نماء الوطن،
• أعيدوا تثقيف ساسة بريطانيا اليوم بالأصول الديموقراطية الوطنية الحقة، و بالمهمة التاريخية العظيمة للجامعات، بل أسكتوا (!؟) وزير الأعمال بيتر ماندلسون، ذلك الذي يصم قادة ” مدرسة العلم البريطانية ” بعدم التزامهم بالطرق الديموقراطية – المتمدنة (!) عند انتقادهم استراتيجية الحكومة العلمية الجديدة،
• لن يغفر الشعب للحكام الذين حرموا شبابه من فرص التعلم و خدمة أوطانهم بخبرتهم و بابداعات بحوثهم و إختراعاتها، في حال يتابع الرئيس الأمريكي باراك أوباما رفع ميزانية العلم حتى 31% قبل مطلع العقد الثاني من القرن الجاري بغرض حماية التحصيل العلمي، تنمية المهارات الوطنية، و مجابهة البطالة،
و تمسكاً بتواصل مودتنا مع جامعة ساوثمبتون البريطانية، التي سبق وحزنا شرف تخرجنا منها، نشير بالتقدير الكبير للبروفسور الدكتور دون ناتبيم ( نائب رئيس جامعة ساوثمبتون ) الذي ادلى بدلوه في هذا الموقف الأكاديمي البريطاني المميز و قال ما معناه: ” إن خلق الفوضى في التمويل الأكاديمي يمثل تحيزاً مضاداً للتعليم العالي البريطاني بل يشكل منطلقاً لتقزيم وجود ” مدرسة العلم البريطانية “، ذات العطاءات الضخمة المشهودة “. و الجدير بالذكر هنا أن ثورة الرأي العام البريطاني على جنف الحكومة البريطانية في هذاالشأن، قد تركزت في العمل على إشهار ضلال الوعي الوطني لهذه الحكومة و تبعيتها المطلقة لقيادة الامبريالية التلمودية – الأمريكية، و التي تجلت بمساهمتها الرئيسة في الحروب الامبريالية المشتعلة اليوم ما بين بلاد الرافدين و أفغانستان. و تأكيداً لهذه الحقيقة تنفق هذه الحكومة ما لايقل عن 55.4 بليون دولار على الحرب، حيث بلغ معدل نمو الانفاق الحربي البريطاني حدود 3.8% في العام ( و احتلت بريطانيا المرتبة الرابعة في الانفاق الحربي العالمي )( أنظر التفصيل في تقرير معهد ستوكهولم للسلام: (SIPRI)’s 2009 Year Book ). و لا يسعنا في ختام هذا الرأي التأكيد على أننا لم نقارب فيه مقام ” مدرسة العلم العربية ” المستضعفة اليوم، فلدينا الكثير مما يمكن إضافته على شعارات ثورة الرأي العام البريطاني، المبينة آنفاً، و إقتراح الأكثر على أية غضبة عربية منظورة بعون الله على من ” يستوطي حائط ” مدرسة العلم العربية، أو من يحط من همة شباب العلم اليوم.
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
رئيس الجمعية الفيزيائية العربية
[email protected]
2/21/2010 3:00:15 PM

التعليقات متوقفه