حَوْلَ الثُقبِ العَرَبِيِّ الأَسْوَدْ
لم أكن أتوقع البتة أن يحظى، بوافر من رِضا، ذلك النهجُ الفيزيائي الذي اتبعته مؤخراً لإدارة الحوار في صلب بعضِ أعمدة الرأي الطاقية – البترولية – التنموية المتواضعة التي شرفني الإعلام الوطني – العربي الحق بنشرها حتى اليوم.
و لم أكن أتصور البتة أن يزكي استخدامي، لبعض عموميات المعرفة الفيزيائية، من حرارة التواصل القائمةُ ـ بعون الله ـ حيةً حتى الآن فيما بيني و بين أصدقائي الفيزيائيين عامة، و بخاصةٍ مع طلابي القدامى الذين بات معظمهم الآن يحتل مراكز أكاديمية و سياسية و تنموية مرموقة عبر الوطن العربي العظيم. و من جهة أخرى، أعترف بأن هذا الاستخدام قد فتح باب تعجب واسع أمام القاريء العربي العام، بل غير المختص، ذلك الذي طالما أسعدني بتعليقاته المشجعة، و شرفني بِحَثِهِ رصاص قلمي كي يبقى مسدداً بحق أبداً ( كما يقول الإعلامي الوطني – العربي المميز الأستاذ حمدي قنديل ) نحو الدائرة السوداء المرسومة في صلب الأهداف التي نسعى إلى جلائها عبر متواضعِ أرائنا هذه. و مع ذلك، فإنني أعاهد الآن، و ليس غداً، أهل الزمرة الثانية من القراء الكرام، بأنني سأتوقف عن هذا الشطح العلمي، و أن أضع موسى الحلاقة الفيزيائية التقليدية هذا ضمن درج قريب من مكتبي، كيلا يقترب من التفكير الوطني – العربي المخلص الذي أبديه، بعضُ أزلام المرتاحين (!؟) في قلوب الثقوب البترولية السوداء المتوافرة هنا و هناك ما بين المحيط و الخليج العربي. فربما، ربما، يقودهم هذا الاقتراب منه في يوم من الأيام، و بشكل غير مناسب حضارياً كالعادة، فيجرحوا رقابهم بيديهم في أي تصدٍ حَلاَّقِيٍّ ما، عندها يكون ” الصوج صوجهم: أي الذنب ذنبهم حقاَ ” كما يقول أخوة العشيرة الغرًّ الميامين في العراق. و سيشهد هذا المقال على استغلالي الأخير لعلم الفيزياء، فإشكالية البترول العربية المستعصية التي تعايشنا بقسوة اليوم، قد يتطلب محاورتها الرمزية – الصوفية هنا تبني المفهوم الفيزيائي ” للثقبِ الأسود:Black Hole “، مع الاعتراف بدايةً بأنني أقف أمام هذه الإشكالية في صف الحائرين الذين ينتظرون بزوغ شمس الفرج من شدة خطر هذا الثقب القاتل.
عموماً تتلخص رؤيتنا الفيزيائية ” للثقب الأسود ” في اعتباره ” فرضياً ” كياناً كونياً بالغ الشدة الثقالية، يتولد وجوده بنتيجة ” موت ” نجم عملاق ما ( ربما يملك بضعة عشرات بل مئات و آلاف كتلة الشمس مثلاً ) ليورثه كامل كتلته. و على سبيل المثال لا الحصر، نتصور ثقباً يمتلك كتلةً بقدر ما لدى الشمس مثلاً، يمكن أن يكون قطره في حدود 60 كيلومتراً فقط. و المثير في هذا الافتراض العلمي البحت، هو امتلاك كل ثقب ” أفقاً: horizon ” عجيباً، لهذا نحذر النجوم جميعاً بعدم الاقتراب منه، ذلك أن كل من سيدخل ” عَجَبَ ” أفق هذا الثقب، سوف يَنْجَرُّ بدون عودةٍ لقلب هذا الثقب، حيث يفنى ضياؤه أمامنا، و ذلك باعتبار أن الضوء كما كتلة النجم لا يمكنه الرجعة و الخروج من أفق الثقب، حتى لا نرى البتة مصير ذلك النجم في ضمير المستقبل، و بناءً على ذلك فقد جلل السواد إسم هذا الكيان العجيب. و نعتقد هنا إمكان محاكاة ” كيان البترول العربي ” الراهن لشأن ” الثقب الأسود ” بشكل هين دون ريب: فالكيان البترولي العربي هذا هو ثقبٌ حقٌ و ذلك باعتباره:
· بالغ قدر القيمة الاستراتيجية الدولية عبر الزمان الذي يحتوينا،
· يتولد بنتيجة نضوب نعمةٍ إلهية عملاقة، حبا بها الله جلت قدرته، البشرية عموماً و العرب منها خصوصاً، فأورثته كامل قيمتها التنموية الشاملة (!؟)،
· و على سبيل المثال لا الحصر هنا، يمكن تصور حيازته مكاناً إستراتيجيا لا يمتد اليوم إلى ابعد من أنوف صناع القرار السياسي فيه،
· و بعد احتلال مصادر هذا الثقب البترولي، مع صناعاته و قراراته، من قبل إمبراطورية الظلام البترولية، فقد بات ” عَجَبُ ” الأفق – الملازم لطبيعة أشياء هذا الثقب – مضادٌّ جداً للنور، لهذا لم نعد اليوم نبصر عبره صدور بصيص أي أمل في البقاء العربي الموحد العزيز الذي حلمنا به ليل نهار.
و بعيد رؤيتنا ذلك الانهيار المشهود في النظام الرأسمالي عموماً، و في الأسواق المالية الرأسمالية خصوصاً، بدأ ثمة ” تسارع رهيب ” في نضوب عوائد الذهب العربي الأسود عبر العالم، و بخاصة تلك العوائد المرصودة في مصارف الإمبريالية الشمالية، منذ نشوء الثقب العربي الأسود إياه و حتى الآن. حتى ليبدو للقاصي و الداني تحت شمس هذا الكوكب أن هذه الأرصدة العربية قد رصدت مبدئياً لتمويل نماء و رفاه أمم الشمال من جهة، و لتؤدي من جهة أخرى وظيفتها المرصودة لتلبية الحاجة الإمبريالية التلمودية الظلامية إليها في وقت الشدة الرأسمالية الاستراتيجية. و كما يحدث اليوم، يتكشف شاهد الأمر عبر مبادرة بعض أصحاب هذه الأرصدة العربية المرصودة، و بدون قيد أو شرط، إلى دعم أعمدة الرأسمالية – التلمودية المتكسرة حقاً في كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا، و ذلك برغم حصول إدراك هؤلاء ” الخلطاء ” لحقائق تفاقم فعل” المقت التنموي العربي ” علينا ( أي تلازم فعل إرهاصُ الفقر و الجهل و المرض مع توحش هدر الدماء العربية على بطاح فلسطين المحتلة و في العراق) عموماً، و أمام أعين القمم العربية البصيرة (!؟) خصوصاً. فهل نتصور أنه : ” سيقع القول ” علينا قريباً ؟ أم أنه قد وقع فعلاً على بعض أهل النظام العربي الحاكم فهم لا ينطقون؟.
الدكتور عدنان مصطفى
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
رئيس الجمعية الفيزيائية العربية
طباعة المقال
التعليقات متوقفه