مَاذَا بَعْدَ الْهُبُوْطِ مِنْ قِِمَةِ الْوَفْرَةِ الْبِتْرُولِيَةِ?
في السادس عشر من نيسان 2008، أي قبيل ذكرى عيد جلاء الاستعمار الفرنسي البغيض عن تراب سورية المقدس بيوم واحد، أبت إدارة تحرير صحيفة تشرين العتيدة أن تصدر في صباحِ ذلك اليوم. ، إلا أن تلقي برمانة القبان في ميزان حوارات صفحتها الاقتصادية المميزة، فأكرمتني في هذه الذكرى العظيمة بنشر عمود رأيي المتواضع بعنوان« إلى متى سيدوم البترول؟» .
فكان أن وَسََّعَتْ بذلك «الباب الضيق » الذي أقمته ما بيني و القراء الكرام من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه، و ذلك التزاماً مني بالأصول الأخلاقية الأكاديمية و الوطنية (أي: national & academic ethics ). و ضيق الباب عندي هنا هو التواضع الإنساني الذي نشأتُ وحرصتُ عليه، و الذي جاء تحديد معناهُ الدقيق على لسان كلمة الله عيسى عليه السلام حين قال: « ربِّ ساعدني على الدخول من الباب الضيق ». و في الوقت الذي تركز به اهتمام القراء الكرام غير المتخصصين، بأربعٍ رؤىً من أصل سبعٍ لهذا التساؤل الحق ( و هي: الرؤية المعيشية، و الرؤية السياسية، و الرؤية البيئية، و الرؤية الوطنية )، اهتمَّ المتخصصون منهم بالباقيات الثلاث أي: العلمية و التقنية و الاقتصادية. و كون الأخيرات الثلاث تدور على مسافات فكرية شبه متقاربة من «حقيقة نضوب البترول »، و هي التي تناظر في الحقيقة «حقيقة بقاء الأشياء الفيزيائية» في الأكوان، فقد أجمع القراء هؤلاء على «ضرورة» الخوض في تفاصيل مسألة النضوب هذه مستقبلاً، بل جلاءُ حقيقةِ بدء هبوط قدرِ مصادر العالم البترولية من «قمتها المصدرية المؤكدة: The Assured Resources Peak ». و بعيداً عن الاعتقاد العجائزي (dogmatic belief) السائد لدى الكثير من قادة النظامين السياسيين العربي و الدولي اليوم، القائل بأن «المصادر البترولية أزلية نسبياً»، يُجْمِعُ الكثيرُ من القراء الكرام على أن «مبدأ النضوب » يتجلى اليوم في أقسى أشكاله عموماً، ليس في الشأن البترولي فحسب، بل في مختلف مجالات الوجود البشري الراهنة. فثمة قارئةٍ كريمةٍ تساءلت قائلة: «في ظل الإمبريالية الجديدة، نضبت من حياتنا الطبيعية براءة الأشياء، ما جعل الأمل ينضب من قلوب الأبرياء!، و أثقل الجشع عقول الأغنياء، تماماً كما يفعل ضلال الساسة التابعين الأغبياء… ». فذكرتني هذه الكلمات الحارَّة بمقال مثير كتبه الأستاذ جيفري ليين ( Geoffrey Lean )، محرر البيئة في صحيفة المستقلة البريطانية، بعنوان: « لماذا فقدت الزهور عبيرها؟ »، يؤكد فيه عموماً على أن التلوث يقوم الآنَ « بحرق : stifling » أريج الزهور، ما يقود إلى تدمير حياة النحل، و تهديد وجود الحشرات الملقحة للأزهار، فتتكشف محصلة ذلك عن تدميرٍ متعاظمٍٍ للإنتاج النباتي الطبيعي، و من ثم تخريب شامل لا براءَ منه لدورة البيئة الطبيعية البريئة التي حبانا الله عزَّ و جَلَّ بها ( www.independent.co.uk 20:/4/2008 ). و إذ يتفق الكثير من القراء معنا في إدراك كلِّ ما أظهرناه سابقاً من مؤثرات – ظاهرة و خفية ? لجوانب حقيقة النضوب البترولي العربي، و بخاصة ما جاء في أعمدة رأينا المنشورة مؤخراً في صحيفة تشرين السورية بخاصةٍ، ( مثل: « الـبـتـرول الـعـربـي: و الرحـيـل إلى الجـانـب المظلم ( 26/03/2008 )، إلى متى سيـدوم البترول؟ ( 16/04/2008 )، نهوض اخوة الذئاب ( 23/04/2008 )، و مَرْكبُ الْبِتْرُولِ الْعِرَبِيِّ يَغْرَق!!.. يَا بَحَارَةََ الْمُوالاةِ الإمبِرياليةِ اهْرُبُوا! ( 30/04/2008 )، و البترول العربي: بين قهر الأرواح و هدر الأرباح: المننشور في 24/04/2008، ضمن الموقع الالكتروني المميز «كلنا شركاء: www.all4syria.org »)، فثمة من يجادل في ضرورة مناقشة طبيعة « القمة البترولية : The Oil Peak » و نُهُجَ السقوط منها و ذلك لإظهار ما تبقى للبشرية جمعاء من بترول و يضع الأمور أكاديمياً في نصاب « لكل أجل كتاب ». على أي حال، لا يسعنا في إطار عمود رأينا هذا سوى التأكيد على أن مصادر العالم البترولية قد قطعت وجودها نحو الجانب الحقيقي للنضوب الأسيّ. مع التأكيد على أنه يمكن للتقدم في استخدامِ نماذج المحاكاة الطاقية الرياضية( ( simulation الإسهام في إظهار تسطح أفقي ما، قد يطرأ في بداية انحدار هذا النضوب. و في جميع الأحوال، يبقى « كِتاَبُ » البترول العالمي، الذي تخطه يد القدر الامبريالي الجديد، غير بعيدٍ عن بلوغ مرحلة كتابة نهايته، حيث نتوقعُ أن يتمَّ ذلك عند حدود منتصف هذا القرن دون ريبٍ. و لا بد من التأكيد مجدداً على أن ثمة صراع قوةPOWER))حاداً يدور اليوم في عالم الشمال ( بل سجالٌ تنمويٌ يحمل الرؤى السبع المشار إليها أعلاه، أنظر مثلاً:www.news.bbc.co.u : 20 نيسان 2008 )، و من لا يربط أثرَ صراع الهيمنة البترولية هذا بالارتباك العالمي الكبير الذي يأخذ اليوم بناصية و بقاء أزلام « إمبراطورية النفط الكبرى »، و بالانحسار الاقتصادي الشمالي المبين، لا يمكنه البتة جَسَّ حدة الانحدار الحاصل جهاراً في طبيعة أشياء النضوب البترولي العالمية. ويأتي على رأس التعليقات التي أبداها المختصون الكرام، تلك المتعلقة بالتساؤل عن مصير البقاء والنماء العربيين، بدءاً من تجاوز سعر البترول اليوم حاجز 120 دولاراً للبرميل الواحد، وانتهاء بالفجيعة المرتقبة لدى أهل البترول عموماً عندما تتكشف لبصيرتهم حقيقة نضوب حقولهم البترولية. من يحاول تجنيب ذاته « الدخول في تجربة» هذه الفجيعة مستقبلاً، كفينيزويلا و إيران مثلاً، لا مناص له من التفكير العملي المباشر بالطاقة الكهرونووية، بل البدء فوراً ببناء نماذج متقدمة: و أعني بذلك تحديداً الجيل الحديث من المفاعلات النووية المتولدة ( fast breeder reactors)، تلك التي باتت تشكل العمود الفقري لفرنسا اليوم مثلاً، و هي التي تقوم منذ بضعة عقودٍ خَلَتْ بإمداد الشبكة الكهربائية الفرنسية بما لا يقل عن 70% من الطلب الوطني الفرنسي على الطاقة الكهربائية. و العجب العجاب الذي يتمُّ تحت مظلة التفكير بقمة الوفرة البترولية العالمية هذه، هو ذلك المرتبط قَدَراً و منظوراً (!؟) بتبديد عوائد قمة وفرة البترول العربية (!؟) عند أقدام عقائد استراتيجيات نشر الديموقراطية الشمالية عموماً: حيث يبدو جهاراً مضي إدارة الامبريالية الشمالية الجديدة، ومن وَالاَهَا في كل من أوروبا والوطن العربي، بتصدير هذه الصَرْعَة المتوحشة إلى عالم الجنوب، و ذلك رغم هدر تريليونات الدولارات من عرق جبين شعوبهم، وإزهاق أرواح ما لا يقل عن مليون شهيد عربي تحديداً. كما أنهم لا يترددون البتة في إبداء وقفاتهم المتوحشة في وجه إيران و هي تسعى لتحقيق توقها الوطني المتقد لحيازة الامكانية الكهرونووية، متناسين بكل ما يعتريهم من حقدٍ و حَمَقٍٍ سياسيين: (1) دور فرنسا بالذات من قبل في تزويد العدو الصهيوني بالبنى الأساسية الحساسة للطاقة النووية ( أي قبيل عدوان حزيران على الوطن العربي ) و (2) تفاني الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا و فرنسا في دعمهم المشهود للعدو الصهيوني وهو يتابع، دون توقف، شؤون إنتاج مئات القنابل النووية والنترونية و الصواريخ بعيدة المدى لصالح حروب ما بعد الوفرة البترولية ( انظر بعض الخفايا في خبر « بوش يزور إسرائيل والسعودية ومصر الشهر المقبل » المنشور في صحيفة الشرق الأوسط، www.awsat.com ، 29/04/ 2008 ) فاستيقظوا يا أولي الألباب.
بقلم: الدكتور عدنان مصطفى وزير النفط و الثروة المعدنية السابق

التعليقات متوقفه