نعم إنه العام الذهبي لإنتاج وتصدير النفط في سوريا، فبعد سنوات من الأخذ والرد عن اقتراب نفاد المخزون الاستراتيجي للنفط في سوريا، وبعيد التراجع الشديد في الإنتاج خلال السنوات القليلة الماضية، أطل العام 2008 ببشائر كثيرة على قطاع النفط في سوريا، سجلت نقاطاً إيجابية في العديد من المجالات، مع تفاوت أهميتها، من عودة مسيرة الارتفاع لأرقام الإنتاج، إلى الزيادة الكبيرة في كمية الصادرات، إلى طفرة القيم ومن ثم إلى المخازين الاستراتيجية.
و في التفاصيل القادمة تبين من خلال الدراسة التالية التي اعتمدت على آخر الأرقام المتوفرة لدينا من قبل بيانات الشركة السورية للنفط والمجموعة السورية للإحصاء وبعض تقارير جامعة الدول العربية إضافة إلى إحصاءات كل من منظمتي الأوابك العربية، والأوبك الدولية.
أولاً: الإنتاج:
وصل وسطي الإنتاج اليومي للعام الماضي إلى (382) ألف برميل يومياً، تشارك في إنتاجها كل من الشركة السورية للنفط، والشركات الأجنبية العاملة في البلاد، وتشير بيانات الشركة السورية للنفط، بأن إنتاجها (الذي يفوق نصف الإنتاج الكلي بقليل) في العام الماضي قد وصل إلى (71) مليون برميل مع نسبة إنجاز قاربت (100 %) من الخطة المقترحة في بداية العام، وإذا ما أضيف لهذه الأرقام إنتاج الشركات العاملة في سوريا سيبلغ الإنتاج السوري للنفط إلى ما يقارب حوالي (135) مليون برميل في العام الماضي، كأعلى الأرقام المسجلة خلال السنوات الثلاث الماضية.
وبمقارنة حجم هذا الإنتاج مع السنوات الماضية، نلاحظ ارتفاعاً ملموساً في قيمة الإنتـــاج مـــن (364) ألــــف برميـــل يوميــاً في العام الماضي، وبنحو (5 %) خلال عام.
وإن كانت هذه الزيادة المسـجلة لم ترقَ بعد إلــى الأرقام السابقة التـــي كان يسـجلها إنتاج النفط في البلاد، والتي وصلت معدلاتها في تسـعينيات القرن الماضــي بيـــن 550 – 600 ألف برميل يوميـاً، إلا أن معاودة الارتفاع في الإنتاج في هذا الوقت بالذات، بعد ست سنوات متواصلة من الانخفاض منذ العام 2003 تحديداً (راجع الرسم البياني الأول) إنما جاء ليخالف بذلك التقارير الدولية السابقة التي طالما نوه بها خبراء صندوق النقد الدولي بأن الإنتاج النفطي في سوريا سيبدأ بالانحدار في مسيرته الآيلة إلى الزوال في السنوات القليلة القادمة، ففي أول تقرير لصندوق النقد الدولي عن سوريا (وفق مشاورات المادة الرابعة) والذي سبق لـ(أبيض وأسود) أن نشرته في عددها رقم (150)، توقع الخبراء حينها أن ينحدر إنتاج النفط في سوريا ليلامس حاجز (300) ألف برميل في العام القادم، والتي رسموا على أساسها سيناريوهاتهم المعروفة التي أوصت نتائجها بإزالة الدعم عن المشتقات النفطية في تقرير صندوق النقد الشهير بداية العام الماضي.
ثانياً: زيادة الكميات التصديرية:
تعد كمية الصادرات النفطية في سوريا من المؤشرات التي تركت أكثر من انطباع حسن لدى دراسة القطاع النفطي خلال العام الماضي، وخاصة إذا ما قورنت بالخطط المتوقعة للكميات التصديرية في بداية العام، وهنا فنحن لا نتحدث عن القيم التي يعرف الجميع بأن ارتفاع الأسعار كان العامل الأساسي في زيادتها، بل نتحدث عن الكميات المصدرة، فقد أشارت الشركة السورية للنفط في بياناتها التصديرية عن العام 2008 بأنها قد حققت زيادة في كمية صادراتها النفطية مقارنة مع الكمية المخططة، وصلت إلى (145 %) بالنسبة إلى النفط السوري الخفيف، و(109 %) بالنسبة للنفط السوري الثقيل، وهذا يعني بصورة أخرى بأن إنتاج النفط الموجه إلى المصافي السورية لتلبية الطلب الداخلي قد انخفض بنفس النسبة (طالما أن الأرقام المخطط للإنتاجها بقيت على حالها كما أشرنا في الفقرة الأولى)، هذا الأمر الذي يمكن إعادته إلى تراجع حجم الطلب المحلي الناتج عن انخفاض التهريب بعيد رفع أسعار المشتقات وخاصة المازوت، الذي أوقف على ما يبدو التهريب الخارجي الذي كان يتم عليه.
وإن كانت كميات النفط المصدرة ثابتة تقريباً في أرقامها منذ العام 2003 عند وسطي (250) ألف برميل يومياً فإن الكميات المصدرة هذا العام لابد وأن حققت طفرة في الكميات الفعلية عن تلك المخططة.
ثالثاً: طفرة القيم السعرية:
لعل أكثر الأرقام المتميزة التي حققها القطاع النفطي في سوريا خلال العام الماضي إنما تعود لقيم الناتج النفطية، وخاصة في ظل طفرة الأسعار التي تحققت خلال ذلك العام، فبالنسبة للشركة السورية للنفط (لوحدها) ودون إضافة الحصة من إنتاج الشركات العاملة (والتي لا تتوفر أرقام عن قيمتها حالياً) فإن الإنتاج الإجمالي للشركة وصل إلى (300) مليار ليرة سورية، كأعلى رقم على الإطلاق خلال سنوات عمل الشركة، وبنسب تنفيذ وصلت إلى ما يقارب (200 %) من الخطة الموضوعة، أي وبلغة أبسط فإن (150) ملياراً من ناتج الشركة لم تكن متوقعة في بداية العام، وعليه فإن الزيادة في قيمة الأسعار العالمية أولاً، والزيادة في كميات التصدير ثانياً قد أدت إلى توفر (150) مليار ليرة سورية (أكثر من «3» مليار دولار) إضافية لم تكن في الحسبان في بداية العام من إنتاج الشركة السورية للنفط وحدها، ناهيك عن الزيادة الحاصلة في الحصة من الشركات العاملة في سوريا والتي كما ذكرنا لا توجد أرقام دقيقة لها إلا أن المؤشرات الأولية لدينا تؤكد بأنها قد فاقت (200 %) عن أرقامها المخطط لها للعام الماضي، خاصة وأنها حققت هذا الأمر فعلاً خلال الأشهر التسعة الأولى من العام حسب إحصاءات وزارة النفط، الأمر الذي سيرفع من قيم الإنتاج الكلي لإنتاج القطاع النفطي في سوريا إلى أكثر من (600) مليار ليرة سورية، وهو ما يعادل ضعف الناتج المسجل في العام 2007، ليكون بذلك أحد أعلى الأرقام المسجلة على الإطلاق في قيم إنتاج النفط في سوريا.
وهكذا ومع هذه الطفرة السعرية المحققة، فبالطبع فإن أموالاً ضخمة قد ضخت لموازنة العام الماضي 2008 كإيرادات جديدة لم تكن متوقعة حين إعدادها، لكنها للأسف ذهبت بجزء كبير منها لمقابلة الخسائر الجديدة التي نتجت عن ارتفاع فاتورة الاستيراد النفطية.
رابعاً: مفاجأة الاحتياطي المؤكد:
كما ذكرنا في البداية، فبعد أكثر من تقرير حول الاحتياطيات المؤكدة للنفط في سوريا، وتقديره بنحو (3) مليارات برميل لا غير، جاء ت الأشهر الماضية لتحمل معها إحدى أكثر الأخبار إسعاداً للمهتمين في قطاع النفط في سوريا، بعد أن أشارت التقارير الجديدة، والتي كان آخرها تقرير جديد لمنظمة الأوابك العربية (منظمة الدول العربية المنتجة للنفط) والذي أشار إلى أن ارتفاع الاحتياطيات المؤكدة للنفط في سوريا وصلت إلى (4.2) مليار برميل، بزيادة فاقت (25 %) عن التقديرات السابقة، كيف لا وقد وضع التقرير الأخير سوريا في مرتبة تقدمت فيها في احتياطاتها النفطية المؤكدة على مصر المعروفة بإنتاجها واحتياطياتها النفطية، لكنها بالطبع لا ترقى إلى احتياطيات باقي الدول الأعضاء، طالما أن الاحتياطي السوري لا يشكل سوى (0.63 %) من إجمالي احتياطيات دول الأوابك وفقاً للتقرير المذكور.
النتائج:
1 – مع كل تلك الأرقام التي ذكرت فإن العام 2008 استحق أن يسمى العام الذهبي للنفط بامتياز.
2 – بينت الأرقام السابقة الأخطاء التي وقع بها خبراء صندوق النقد الدولي عند توصيتهم بقرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية، وذلك بانطلاقها من توقعات أكدت حينها تراجع الإنتاج النفطي والاحتياطيات مقابل ازدياد هام في فاتورة الاستيراد النفطية، تلك التوقعات التي أوضحت أرقامنا السابقة خطأها فيما يتعلق بجانب الإنتاج والاحتياطيات المذكورة.
3 – لعل أكثر ما يحزننا في الدراسة، إنما يكمن في الأرقام الهائلة التي ذهبت سدى من هذه الطفرة النفطية، والتي يعود سببها أساساً إلى غياب التخطيط الاستشرافي عن بعض الأماكن خلال السنوات الماضية، فلو أن هذا التخطيط كان موجوداً، لكان يمكن توقع أزمة المشتقات النفطية قبل حدوثها بسنوات، بعد أن أصبح إنتاج المصافي المحلية غير كاف لمواجهة الطلب المحلي المتزايد الأمر الذي حولنا إلى استيراد هذه المشتقات، وبالطبع فمع ازدياد أسعار النفط خلال العام الماضي زادت فاتورة الاستيراد هي الأخرى، الأمر الذي جعلها تستحوذ على القسم الأكبر من زيادة قيم الصادرات النفطية في سوريا، مما فوت الاستفادة من فرصة ذهبية قليلة التكرار في الاستفادة من الفوائض النقدية التي كان يمكن تحقيقها من الطفرة السعرية المذكورة، فيما لو كان إنتاجنا المحلي من المشتقات يكفي لمواجهة الطلب المحلي، نعم لقد فوتنا على أنفسنا هذه الفرصة الذهبية التي لم تكن تتطلب سوى أن يتم التخطيط فيما مضى لإنشاء مصافِ جديدة، كان يمكن أن تبدأ بالعمل خلال السنوات القليلة الماضية قبل استفحال الأمر اليوم، هذه المشكلة التي سنوضحها في المثال البسيط التالي:
ففـي عام 2007 على سبيل المثال تم إنتاج (364) مليون برميل في ســـــوريا، يوميـــــاً (250) ألـف برميل منهــا (نحـو «68 %») ذهــــب للتصديــــر والباقــي ذهــب إلـى المصـــافي المحليـــــة للتصنيــــع لمواجهــة الطلب المحلي على المشتقات، لكن وللأسف فإن طاقة المصافي لا تكفي لمواجهة الطلب فقد تم استيراد الباقي من المشتقات من الخارج والتي وصلت قيمها الكبيرة إلى ما يعادل قيمة (273) ألف برميل يومياً من النفط الخام كونها تحتوي على قيم إضافية مصنعة، الأمر الذي حول ميزاننا النفطي في ذلك العام من ميزان رابح لتصديره (250) ألف برميل من النفط الخام إلى ميزان خاسر لاستيراده مشتقات تفوق قيمتها كل القيم المصدرة (راجع الرسم البياني الثاني)، هذا الأمر الذي كان يمكن فيما لو وجدت مصافِ أخرى أن يحول تصدير النفط المذكور إلى المصافي السورية لنستفيد من القيمة المضافة من التصنيع بدلاً عن تصدير النفط الخام وإعادة استيراده مصنعاً بقيم أكبر.
4 – أمام الأرقام الجديدة في الاحتياطي النفطي المؤكد في سوريا، على الحكومة اليوم أن تحاول الاستشراف من جديد للمستقبل فيما يتعلق بقطاع إنتاج المشتقات النفطية، فأمام هذا الاحتياطي المبشر، فإن الاستثمار في المشتقات النفطية يجب أن يكون من اهتمامات الحكومة اليوم، وذلك من خلال زيادة عدد المصافي الجديدة من جهة، والإسراع في عمليات إنشاء المصافي المتفق عليها خلال الأشهر الماضية من جهة أخرى، وذلك ليس من أجل الانتقال من مرحلة الاستيراد إلى الإنتاج المحلي فحسب، بل الذهاب إلى أعمق من ذلك بالعمل على تصدير المشتقات النفطية بدلاً من النفط الخام، مع كل ما يمكن أن يحققه ذلك من قيم مضافة ضخمة في القطاع النفطي، وفي الميزان التجاري السوري.
سوريا الغد