العَرَبُ اليَوْمَ :أَلوَاحٌ تُرْفَعُ وَ أَقلاَمٌ تَجِفُّ ؟!

مع فجر استقلال سورية و تحررها من ربقة الاستعمار الفرنسي القديم، صنع المجتمع العربي السوري الحرّ، في خمسينيات القرن العشرين الماضية، قومة شعبية – وطنية – عربية جديدة مشهودة في تاريخ سورية الحديث. هذه الظاهرة الوطنية – التحررية – العربية المميزة،

أضاءت قلوبنا الشابة وقتئذٍ، فأبصرنا وجودنا الحضاري و هو يتعاظم تحت الشمس وفق مكان عزة وطنية لا ريب فيه. و بقراءتنا الثاقبة لألواح هذه النواظم، وضعت شخصياً في مواجهة قرار الوالد، رحمه الله، الذي أمرني بالالتزام بأصول واحد منها فقط هو ” التجاهد لإعلاء قوة المعرفة ( force of knowledge ) العربية باعتبارها – كما علمتنا مدرسة العلم العربية العتيدة – تشكل المحرك الرئيس لتقدم المجتمع العربي – السوري نحو صنع الثروة الوطنية – العربية المتجددة في ضمير المستقبل “. ، و عند مجادلته، قال: ” إما أن تترك السياسة أو تترك هذا البيت “. فكان أن تركت موطني ” الباب “، لأتابع دراستي الجامعية مستقلاً عنه في دمشق. لكن قلبه الكبير، تغمده الله برحمته الواسعة، لم يتخلَ عني، بل زاده موقفي هذا تمسكاً بما نذرت نفسي للعمل الوطني – العربي من جهة، و أحسست بشدة اعتزازه بي: كوني لم أتوانى البتة عن تحصيلي العلمي العالي من جهة أخرى. و في إطار الشاهد الأخير هذا، أذكر ذات يومٍ محاولتي السفر إلى ” الباب ” و كانت عند ظهر يوم وقفة عيد الفطر. و قبيل تحرك السيارة العمومية الخاصة بأحد أهل الباب، أعلمني سائقها بأن دركياً فاسداً نصب حاجزاً له و للسائقين قرب بلدة ” حسية ” على طريق دمشق – حمص، فلا يترك سائقاً يمر أمامه إلا و ” ينتزع ” منه ليرة سورية (!)، ( كانت هذه الليرة قادرة وقتئذ على شراء خمسة كيلوات برتقال، بينما يحتاج أحدنا اليوم إلى 200 ليرة لشراء هذه الكمية، و هو تضخم يعادل 20000 % خلال نصف قرن؟! )، لهذا تمنى عليَّ استخدام شجاعتي الوطنية – السياسية في تأديبه. و عندما وصلنا حاجز الدركي هذا عصراً، طلبت من السائق عدم النزول من سيارته، و إعطائه فقط ليرة ورقية من عندي سجلت رقمها سابقا. حاول الدركي الفاسد إحراج السائق الذي كنت أجلس في التاكسي خلفه بطلب المزيد. و عندما لم يعبأ هذا الفاسد بصيامنا و لا بالحر الشديد الذي يكاد يحرقنا، نزلت من السيارة لأتحدث معه بعيداً عن السيارة. قلت له: ” سنتوقف حتماً في بلدة حسية لزيارة صديق لنا في البرلمان السوري ( رحمه الله )، و سوف ننتظرك عنده حتى تعود لمخفر حسية الذي تنتمي إليه، عندها سنرافقك مكبلاً لمكتب وزير الداخلية في دمشق بعون الله “. عندها أصابته الصدمة، لتقلبه إلى حمل وديعٍ يحاول استرضائي متذرعاً بحرصه على أداء واجبه …الخ. عندها طلبت منه الاعتذار من سيدة تحمل طفلاً يبكي في السيارة ففعل، و كاد أثناء ذلك أن يسقط طاقيته أمام أقدامنا. و قد علمت لاحقاً بأن هذا الدركي حمل بعدئذٍ حاجزه و رحل للجحيم و إرتاح الناس من شر فساده. و أعترف للقاريء الكريم، بأنني لم أحاول هنا تسجيل يومية ما، بل لأقدم شاهداً على ” قوة ” تمثيل الرأي العام الذي امتلكها صديقنا عضو البرلمان السوري وقتئذٍ، لأقارن به هيئة هذه القوة مهيضة الجناح اليوم. شاهدنا في هذا المقام على ذلك ما تتكشف عنه شواهد حياة هذا التمثيل عبر الوطن العربي اليوم، فعلى سبيل المثال لا الحصر نتبين منها ما يلي:

 

الشاهد الأول: أظهره مؤخراً نواب الحزب الحاكم في مصر، كنانة الله، عرين سعد زغلول و جمال عبد الناصر، مظهرين غضبهم الشديد على: (1) جورج غالواي ( النائب الإنكليزي الحرّ في مجلس العموم البريطاني ) الذي جاء بقافلة أوروبية تحمل الدواء و الحليب لأطفال غزة هاشم المحاصرين، و لاحقاً (2) ضد دعم المقاومة اللبنانية المجيدة لأخوتهم في المقاومة الفلسطينية البطلة ( أنظر التفاصيل في صحف نظام كامب دايفيد المصرية الصادرة صباح 15 نيسان 2009 مثلاً ). و لا نعرف بعد كيف سيكون مستوى تمثيل (!؟) جنون نواب الموالاة هؤلاء ، عندما سيوعز لهم قادة النظام الأمني الحاكم في مصر بالتحرك مستقبلاً أثناء عبور الأسطول ” الإنقاذي ” الجبار الذي سيقوده النائب البريطاني جورج غالواي قريباً بدءاً من فينيزويلا خوزى شافيز الحرة و انتهاءاً بمواطن صمود أخوتنا المحاصرين في غزة المحروقة،

 

الشاهد الثاني: و تجلى عاريا لا ريب فيه من خلال تلاعب النواب الموالين للإقطاعية – الرأسمالية اللبنانية و ” حرقهم ” النصاب القانوني لجلسات البرلمان اللبناني للحؤول دون إقرار تشريعات تخص رفع الأعباء الضريبية الثقيلة عن كاهل أخوتنا المستضعفين. و لا يسعنا في هذا الشاهد إلا أن: (1) نذكر العرب جميعاً بأفعال ” سادة ” هذه الموالاة للاستعمار الأمريكي – التلمودي أثناء تجاهد المقاومة اللبنانية البطلة لتحقيق نصر تموز 2004، و (2) بلامبالاتهم بل غضهم الطرف عن أفعال أزلامهم الكبار في رأس هرم السلطة الأمنية اللبنانية الحاكمة حيث يأتي في مقدمها: استقبالهم الساخن لضباط إسرائيليين أثناء حرب تموز 2004 و ذلك بأمرٍ من وزير الداخلية اللبناني الموالي إياه وقتئذٍ، و انكشاف شبكة تجسس لصالح العدو الصهيوني يقودها أحد ضباطهم و هو برتبة ” عميد ” في جهاز الأمن اللبناني ( أنظر التفاصيل في عدد 16 نيسان 2009 من جريدة السفير اللبنانية مثلاً )،

 

الشاهد الثالث: و يحكي جهاراً خنوع نواب الموالاة في البرلمان الأردني و هم يؤمرون بالصمت التام إزاء غضب أهلنا المتعاظم على إعتقال مواطنين شرفاء، تحت غطاء حماية أمن المملكة الحاكم، و من ثم الحكم عليهم بالسجن الشاق لبضعة سنوات تحت ذريعة تشجيع للمقاومة الفلسطينية ( بقيادة حماس ) (!!؟)، في حال نجد في الشاهد الأخير وهو:

 

الشاهد الرابع: كيف يتقوقع إتحاد البرلمانات العرب في أحد ” القيعان ” البترولية العربية الموالية، و هم في حال ارتعاش شديد، و هلع رهيب إزاء تحدي الوطنيين – العرب الأحرار لهم و الطلب منهم إثبات قوة تمثيلهم للرأي العام العربي الحق و المبادرة، على الأقل، برد تحية البطل الإنساني جورج غالاواي البريطاني على أزلام الإمبريالية – الأمريكية – التلمودية و مجاراته في نجدة أهلنا المحاصرين ظلماً و عدواناً في غزة هاشم.
على أي حال، لا بد لي من الاعتذار لبعض القراء الوطنين – العرب الأبرار الذين قد ” يخطفون الكباية من رأس الماعون “، كما يقول المثل الشعبي العربي، و يحسبون أن ما سبق الحديث عنه يرد في خانة فعل ” إحباط الذات “، و العكس هو صحيح. فمن حواراتي المستدامة مع شباب الوطن العربي خصوصا( كما حدث في ندوة جامعة حلب مؤخراً )، و مع أبناء الشعب العربي كله، لم أجد عربية أو عربياً واحداً البتة يخرج عما جاء في ألواح صمود الوطنية العربية الثابتة، تلك التي حفظناها و عملنا من أجلها حتى اليوم. و باعتبار أن الذكرى تنفع المؤمنين، يبدو أن هذه الألواح ستبقى عقائدها الخالدة راسخة كما وعتها ضمائرنا لدى صبيحة عيد الجلاء في السابع عشر من نيسان، حيث ” انتظمت ” كلماتها المقدسة لتقول لنا بدايةً ما يلي:

 

الناظم الأول: التجاهد لبناء وطنٍ عزيز، قادر استراتيجيا على مجابهة شتى رواسب الاستعمار، رغمَ: (!) إرهاص صدمة العرب الأولى المتولدة عن احتلال الصهاينة للمقدسات العربية و الإسلامية و المسيحية في فلسطين و (2) في ظل حصارٍ مدنيّ غربي ( civilization siege ) ظلامي تم فرضه بأشكال وحشية مضادة لتحرر البلاد و العباد،

 

الناظم الثاني: العمل على إعلاء باب إنطلاقة الشعب العربي – السوري نحو تدبر أقدار بقاءه و نماءه رغم (1) إرهاص صدمة الأمة العربية الثانية المستدامة المنبثقة عن سيطرة الرأسمالية العربية – الرجعية على مقدرات حياة الإنسان العربي من المحيط الأطلسي و الخليج العربي، و (2) في ظل الثغرة الإنسانية القائمة في المجتمع العربي بين المستَغَلين و المستَغِلين، الفقراء و الأغنياء،

 

الناظم الثالث: و أمرنا بالتجاهد لإعلاء قوة المعرفة ( force of knowledge ) العربية باعتبارها – كما علمتنا مدرسة العلم العربية العتيدة – تشكل المحرك الرئيس لتقدم المجتمع العربي – السوري نحو صنع الثروة الوطنية – العربية المتجددة في ضمير المستقبل.

 

فيا ايها الأخوة العرب في كل مكان، المحتفون معنا بعيد الجلاء العربي السوري، لا تيأسوا من روح الله، فالوحدة العربية آتية لا ريب فيها، على مركب تحررنا العربي الحق، لتصنع الأجيال العربية القوية مستقبل العزة و الإنصاف العربي المشهود.

 

الدكتور عدنان مصطفى

[email protected]

‏الجمعة‏، 17‏ نيسان‏، 2009


طباعة المقال طباعة المقال

قد يعجبك ايضا

التعليقات متوقفه