بَيْنَ خَمْرِ البِترُولِ وَ سُكرِ الغَدِّْ
في أحد دروس الأدب العربي التي كنا نتلقاها في المرحلة الثانوية من حياتنا العلمية، حدث أن قام أستاذ اللغة العربية المميز بقراءته نماذج من الشعر الصوفي، مبرراً اختياره هذا وقتئذٍ : ” برغبته في تعميق وعينا الأدبي و إثارة خيالنا العلمي “.
و لن أنسى البتة تحمله عبء تفجر خيالنا الإنساني الشاب و نحن ” نجادله ” حول مسألة استعمال الخمر من قبل الشاعر الصوفي العظيم عمر الخيام ( العاشق ) لبلوغ نشوة تصور مناسب للمعشوق. و المميز في مجمل تجربتنا الفكرية هذه مع أستاذنا الفاضل، رحمه الله، ذلك الحوار العميق الذي أجراه مع أحد زملاء الصف وقتئذٍ، و من ثم أخي و رفيق نضالنا الوحدوي العربي لاحقاً، أي المحامي القدير الأستاذ توفيق عبيد ( أبو مهيد )، أطال الله في عمره، هو تتويجه معرفتنا المتواضعة بإدراكنا الوثيق ” في أول و آخر الأمر الروحي ” لتلك البراعة البلاغية الصوفية في اعتماد ” مفهوم الخمر “، بل ” السكر”، لتجسيد الإدراك الإنساني لمنظورنا المباشر لأبرز معالم ” الحقيقة في الوجود “. وعبر معرفتي الفيزيائية الحديثة لاحقاَ، ميزتُ قدر عظمة هذا المفهوم من خلال كلمة الله عيسى عليه السلام بأن: ” القليل من الخمر يشرح قلب الإنسان “. في حال أدركت حقاً كبر الإثم الناجم عن المعاقرة الواقعية للخمر السوقيّ من خلال قول الله جل و علا: ” يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما..” ( القرآن الكريم، البقرة 219 ). و الذي حفزني لذكر هذا الشاهد الإنساني الحبيب لنفسي، هو تعليق فريد وردني من أحد أخوتي الأحباء في ” المعرفة البترولية “، أي صديقي المهندس تركي حمش ( أبو حسن ): فهذا الخبير البترولي المرموق، قرأ أحد أحدث أعمدة رأييِّ المتواضعة فأراد، دون معرفة سابقةٍ بدرس أستاذنا الحبيب المشار إليه أنفاً، أن يسقيني، وفق نهج أخي في الفيزياء الصوفي عمر الخيام، ” خمراً بترولياً جديداً صبَّهُ من زجاجة مكمنية عتيقة “، و ناقل الكفر ليس بكافر حقاً. و عندما قمت بصبِّ روح هذا الخمر العلمي الجديد ( downloaded ) في كأس التبصر العلمي – السياسي الحديث، قرأت في قول الأستاذ حمش ما يلي: ” لا ريب أنك معنيٌ في كتاباتك بالتكتيكات و الاستراتيجيات الطاقية، في حال أحرص على أن أكون بين المعنيين بالقضايا التقنية. و تأكيداً لذلك، أحاول جاهداً تذوق خمر كتابٍ، صدر مؤخراً، بعنوان: ” الذهب الأسود: الإمساك بخناق أسطورة الندرة و السياسة البترولية: lack gold: Stranglehold of the myth of scarcity and the politics of oil “، كتبه (!) كرايغ سميث ( رئيس مجلس إدارة شركة التجارة السويسرية الأمريكية ) بقلم الدكتور جيروم كورسي، فبدا للعديد من حولنا في الشأن الطاقي و كأنه يهز اليوم بجذع العقيدة الرئيسة للصناعة البترولية العالمية. و بالأخذ من آخر كلمات دعوى هذا العمل، يزعم سميث و كورسي بأنه: ” لا يمكن اعتبار النفط و الغاز الطبيعي كمصدرين حفريين ( fossil fuels ) (!؟)، فقد تشكلا – حسب زعم المؤلفين – عبر تفاعل كيميائي طبيعي قام بين عناصر الحديد و الهيدروجين و ثاني أوكسيد الفحم عميقاً عند القاعدة الأرضية ( mantle ) “. و يجادل المؤلفان عبثاً في إقناع القاريء المختص قبل غيره ” بخطأ علماء الأرض في فهم الصخور المصدرية ( source rocks ) التي تشكل الخطوة الرئيسة في عملية الهجرة البترولية. وعليه فإن الواجب يقتضي منا – نحن علماء الأرض و البترول – أعادة تأهيل تخصصاتنا و البحث مجدداً عن هذه الصخور المصدرية في الأماكن و الأعماق الصحيحة….الخ..الخ”. و بمشاركة صديقنا أبو حسن في تذوق هذا الخمر الإمبراطوري الجديد، و ليس الأكاديمي البروفانسي المعتق، يمكن للمتعجل قرع كأسه مع هذين المؤلفين، و الانتشاء بفكرة ” تلاشي نظرية قمة الوفرة البترولية “، التي باتت اليوم مثيرة الحروب الإمبراطورية داخل أوطان أمم ( أوبيك ) و ( أوابيك )”. و كائن من يكون حقاً وراء ” إبتكار ” هذه الخمرة الجديدة، حيث لا نعتقد أنه من خارج زمر أزلام الابتكارات الهمايونية الإمبراطورية إياها، إنما هو بتقديرنا مخترع لا يستهان به، يحاول محاكاة ” خمرة ” قام بابتكارها أحد دهاقنة التلمودية من قبل، و هو الدكتور توماس غولد ( الأستاذ بجامعة كورنيل الأمريكية ) و نشره بهيئة نظرية ” كونية “، قال في موجزها تحديداً: ” ليست المصادر الهايدروكاربونية شأناً حيوياً اخترعته الجيولوجيا – كما تقول النظرية التقليدية – و إنما هو شأنٌ جيولوجي كونته العلوم الحيوية “، و أقرُّ آسفاً، بأنني لم أكن الوحيد بين الأكاديميين الذين شربوا، منذ مطلع الربع الأخير من القرن العشرين الفارط، و حتى اليوم، بعضاً من هذا الخمر، و ذلك حين اقتنعنا ، بأشكال فلسفية – علمية ما، باحتمال (!؟) وجود الغاز الطبيعي التكويني الطبيعي في القشرة الأرضية ( للاستزادة في هذا الشأن أنظر مثلاً في مجلة العلم ” Science Magazine ، عدد شباط 2008 “، التي يصدرها إتحاد تقدم العلم الأمريكي ( AAAS ) الذي نحمل شرف عضويته منذ ما ينوف عن ربع قرن مضى ). على أي حال، عندما ذهبت السكرة سريعاً، صحونا لاحقاً على رؤية بريق الخاتم الإمبراطوري التلمودي الظلامي الممهور جهاراً على كأس فرضية غولد هذه، فأدركنا خبث مجيء فرضية غولد و سعيها لسحق عقيدة أهلنا في كلٍ من ” أوبيك ” و أوابيك ” في الدفاع عن مصادرهم البترولية الناضبة. و عليه، فإنه لم يزل باعتقادنا الفيزيائي التجريبي، ليس ثمة وجود لبترول ” كوني ” مؤكدٍ وفق الصيغة المستغلة عالمياً اليوم، و هذا لا ينفي البتة شديد تمسكنا بجوهر الموضوعة العلمية القائلة بأنه: ” فوق كل ذي علم عليم “.
الدكتور عدنان مصطفى
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
رئيس الجمعية الفيزيائية العربية
profamustafa@myway.com

التعليقات متوقفه