الْعِلْمُ وَ الْبِتْرُولُ وَ صِنَاعَةُ الْدَمِّ !
ضَجَّ الإعلام الشمالي مؤخراُ بتكشفات فكرية جديدة، سبق أن توقدت خلفياتها العقائدية – الأخلاقية تحت رماد أحداث بقاء / نماء البشرية خلال العقد الأول من القرن الحادي و العشرين الجاري.
و برغم تباهي أمم الشمال الدائم بتمسكها الشديد ” بأصول التمدن: essentials of civilization ” السائدة لديها، لم يعطِ هذا الضجيج بالاً مناسباً ما: ” لعواقب جرائم حروب ثنائي الشرّ تشيني – بوش الدموية “، أو ” لضراوة الصهاينة في إشعال محرقة غزة “، أو ” لطبيعة أشياء الانحسار الاقتصادي العالمي الطاحنة اليوم “، أو ” لصراع القوة البترولي الخفي القاهر “، فقد تركزت على نحوٍ مثير حول ” صناعة الدماء ” (!)، فما الحكاية الأخيرة هذه ؟.
في يوم الاثنين 23 آذار الجاري، و على سبيل المثال لا الحصر، كشف ستيف كونور – محرر صحيفة المستقلة البريطانية – مثلاً عن بداية تحقيق حلم علمي – بريطاني دار في عقول أبناء المجتمع الطبي البريطاني خلال ما لا يقل عن عقد من الزمان. فلقد قامت ( الخدمات الطبية البريطانية – NHS Blood and Transplant ) بتوقيع عقدٍ تمويلي سخيّ مع أكبر مؤسسة طبية خيرية في العالم هي شركة ويلكوم ( Wellcome Trust )، غايته دعم مرحلة بحث و تطوير متقدمة رائدة لإنتاج الدم البشري الصناعي على نطاق واسع. و بذلك جرى منح المجتمع العلمي البريطاني مجدداً فرصة كسب السبق في تنافس استراتيجي دولي عنيف يدور بين السويد و فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية حول إنتاج مادة حيوية فريدة هي ” الدم الصناعي: synthetic blood “. و يتركز الحلم البريطاني هذا في تحقيق إنتاجٍ صناعي لدمٍ بشريًٍ من نوع (O – سلبي )، ذلك الصنف النادر من زمر الدم البشري الأكثر استخداماً في المهام الطبية و الذي يستخدمه اليوم حوالي 7 % من الناس في العالم. و يتوقع جدلاً أن تقوم بلايين الجنيهات التي يستند إليها هذا العقد البريطاني بتمكين الدكتور مارك تيرنر – رئيس المشروع و الأستاذ بجامعة إدنبره الاسكوتلاندية – خلال السنوات الثلاث المقبلة، من بدءِ إنتاج لا محدود من الدم البشري الصناعي و ذلك إنطلاقاُ من خلايا جنينية جذعية ( embryonic stem cell ) متبرع بها. و تتميز الخلايا الدموية الحمراء المصنعة هذه بحملها كمية معتبرة من الأوكسجين في الجسم، و سيكون الدم المصنع هذا خالياً من أي إصابة جرثومية كوباء جنون البقر و فقد المناعة الطبيعية ( HIV )، كل ذلك في الوقت الذي يصبح وفقه قادراً على تلبية الطلب على الدم البشري و إنقاذ آلاف الأرواح البشرية في المستشفيات و الحوادث و الحروب. و رغم أن هذا البحث قد أثار، و لم يزل، جدلاً أخلاقياً – دينياً صعباً ضمن الرأي العام الشمالي، محوره الرئيس: ” رفض تدمير الخلايا الجنينية البشرية لإنتاج خلايا جذعية و التدخل في ” طبيعة أشياء ” خلق الناس و من ثم التعامل بدماء لا تنتسب لبشر “، فقد حسم الرئيس الأمريكي الدكتور باراك أوباما هذا الجدل مؤخراً بفتحه باب العمل في هذا المجال الحيوي الاستراتيجي الحيوي الهام، و ذلك بعد طول حبسه بيد ثنائي الشر تشيني – بوش إياه.
و في الوقت الذي يبرز وفقه خبر دعم البحث و التطوير العلمي الخاص ” بصناعة الدماء ” مثيراً لهمة العلماء في عالم الشمال، يختنق في المقابل ضجيجُ حسرات قلوب العلماء العرب على ما آل إليه عيشهم في إنكسار، و ما ينتاب وضع البحث العلمي العربي لديهم من إنحسار، و من ثم ما يصيب ” مدرستهم العلمية العربية ” من إندثار. و تلك هي باعتقادنا مجرد شواهد، متفاعلة فيما بينها، معبرةٌ حقاً عن سيادة ظاهرة طبيعية في وجودنا العربي الراهن: أي تلك الظاهرة الأساسية التي مردها ” طبيعة أشياء ” وجود معظم القائمين في النظام العربي الحاكم على إدارة شؤون التربية و العلم العربي، فعجزهم عن تحقيق حسن صنع القرار فاضح و مفضوح حقاً ( أنظر تقويم هذه الظاهرة مثلاً في بحثنا المنشور في مجلة عالم الفكر الكويتية بعنوان: ” مسألة الجامعات العربية: منظور القبور الحية “، المنشور في كانون الأول 1995، 15-34). و يبدو أن ثمة قدر يغشى الوجود البشري: يتجلى اليوم في ” صنع الدماء النقية بالعلم ” لدى أمم الشمال، و في ” هدر الدماء البريئة بالجهل ” في عالم الجنوب من جهة، و في ” صنع القناطير المقنطرة من الذهب بشكليه الأصفر و البترولي ” في بعض المجتمعات الشمالية مع ” إنضاب المصادر البترولية و الإنسانية ” ضمن معظم أمم الجنوب، و العربية منها خصوصاً، من جهة أخرى. فحروب البترول الإمبراطورية المنفذة ما بين أفغانستان و غزة حتى اليوم لم تُجْرِ تحويلاً لتريليونات الدولارات البترولية – العربية إلى جيوب غلاة الإمبريالية الجديدة و أزلامها الفاسدين من العرب فحسب، و إنما أحالت للقبر بضعة آلاف من أرواح أخوتنا العلماء العرب من أقصى الوطن العربي لأقصاه، و الشهادة لله، أن هؤلاء الأخوة العظام قد ” أخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون “.
الدكتور عدنان مصطفى
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
رئيس الجمعية الفيزيائية العربية
profamustafa@myway.com
24/03/2009 02:34:08 م

التعليقات متوقفه