الاستِثْمَارُ الطَاقِيُّ العَرَبِيُّ: كَلِمَةُ حَقٍّ وَ لَكِنْ..!
في النصف الأول من عقد السبعينيات من القرن العشرين الماضي، و أثناء جلسات التدريب الخاصة بطلاب السنة الرابعة في الفيزياء الحديثة، ألحَّ عليَّ رئيس الفنيين المخبريين في قسم الفيزياء بجامعة دمشق، و هو الأخ الكريم السيد عبد الرؤوف القضماني، أن أستقبل صديقاً له، من خريجي الفيزياء القدامي الذين تدربوا على يديه من قبل،
يؤمن – على نحوٍ مثير للاهتمام – بامكان إنشاء ” آلة للحركة الدائمة: perpetual-motion machine “. و عندما استمعت لهذا الإنسان الطيب، تبين لي أن: ” آلته ” المنظورة قابلة للتحقق فقط في حال ” تدبر ” وسائل مختلفة: يبدأ أولاها بكسر ” قَدَرِ ” القانون الأول في التحريك الحراري، و هو جدلاً يشكل طموحاً من أنماط ” المهام المستحيلة ” في الوجود دون ريب، و ذلك باعتبار أن هذا القانون الطبيعي الراسخ يدلُّ ببساطة على حقيقة ” حفظ الطاقة ” في الأكوان. و كيلا ندخل في تفاصيل هذا ” التدبر “، هنأت هذا المخترع وقتئذٍ، على خياله العلمي، مظهراً له أن ما تم التفكير به، في ابسط الأحوال، إنما هو شكل ما من أشكال رؤى ” السحر ” و لربما تحاكي قصة ” جعل ” فرعون مصر و أركان دولته يرون عصي سحرتهم و عصا النبي موسى تبدي فعلها على النحو الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، و ذلك حين قال جلت قدرته: ” قالوا يا موسى إما أن تلقي و إما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس و استرهبوهم و جاءو بسحر عظيم * و أوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ” ( القرآن، الكريم، الأعراف، 115-117 ). و رغم فلاحنا الظاهري في إقناع هذا المبتكر الخيالي بأنه ليس ثمة وسيلة ” لخلق الطاقة ” أو ” إفناءها ” ( القانون الفيزيائي الطبيعي الأول )، و أن نبي الله موسى ( عليه السلام ) لن يعود للبشرية و ذلك بعد أن ختم الله أنبياءه و مرسليه بجدنا المصطفى صلى الله عليه و سلم، فقد مضى هذا المخترع الافتراضي، متشاجراً مع نفسه (!؟)، محاولاً إقناعها بإمكان تنفيذ اختراعه رغم أنف فيزياء عدنان مصطفى، و ذلك عبر معظم شوارع دمشق و ضواحيها حتى اليوم. و المؤسف حقاً هو بروز مثل هذا الشاهد في إطار النظام الطاقي العربي الراهن، ذلك المتشاجر مع ” طبيعة أشياء ” مهمته الطاقية الوطنية العربية من جهة، و المتصالح مع رغبة الغير ( أي أمم الشمال المستهلكة للبترول العربي الرخيص ) في تطوير هذه الطبيعة لتأخذ شكلاً من أشكال ” آلات الحركة الدائمة الافتراضية ” التي تعمل عمل ” قطٍّ من خشب يصطاد و لا يأكل “، كما يقول المثل الشعبي العربي الشائع من جهة أخرى. و بناءً على هذه الحقيقة السائدة اليوم، فقد ألزم أصحاب القرار السياسي العربي بضرورة إنشاء ” آلة إمداد بترولية دائمة “ قبيل أفول العقد الأول من الحادي و العشرين الجاري، و ذلك استناداً إلى ” تدبر ” الفرضيات التالية:
i. تكتسي مصادر البترول العربية ( نفط و غاز طبيعي ) سمة الدوام لذا لا تنضب البتة (!؟)،
ii. على نقيض اعتقاد العرب بأن الله جلت قدرته قد حباهم بالثروة البترولية هذه لصالح بقاء / نماء الأجيال العربية القادمة، تعتبر إمبراطورية الظلام البترولية أن هذا الاعتقاد باطل، ” فالبترول العربي هو ملك للعالم ” تقرر وضعه بيد إمبراطورية الظلام البترولية،
iii. باعتبار أن أمم الشمال تشكل المستهلك الأكبر للبترول العربي – قد اعتمدت اقتصاد البترول العربي الرخيص – فلا بد للنظام الطاقي العربي من أن يتابع وظيفته ” المأجورة ” بضمان استمرار إمداده هذه الأمم على نحو مواكبٍ لطبيعة نموها الرأسمالي البحت،
iv. كيلا يتخلف الإمداد عن متابعة نموه المقدر طبيعياً بنتيجة: (1) انخفاض المخزون المؤكد من جهة و (2) تخلف وسائل الصناعات البترولية عن التقدم الصناعي من جهة أخرى، يتوجب على صناع القرار العرب ” استثمار ” جزء مناسبٍ من عوائدهم البترولية في تطوير وسائل الإمداد لصالح أنظمة الطاقة الشمالية دون استثناء،
و رغم ” بطلان ” الفرضية الأولى وفق أصول الجيولوجيا ( أي علوم الأرض ) و بهتان الثانية لدى الشعب العربي المستضعف، و خذلان الثالثة لمنطق ” الاعتماد المتبادل بين الناس “، و خضوع الرابعة لقسوة ” الإذعان ” للإمبريالية الجديدة، فإن ورود أية كلمة قد تبدو حقاً في ” طبيعة أشياء ” آلة الامداد البترولية الدائمة ” المنظورة هنا ستأتي في مكان ” كلمة الحق التي يراد بها الباطل ” حقاً. مثال ذلك، ما يلهج بذكره، و الدفاع عنه، الكثير من صناع القرار البترولي العربي حول ” ضرورة ” الاستثمار المالي ” بغرض تطوير الامداد البترولي في إطار ” عقيدة أوبيك “، القاضية بتحقيق التزام الدول الأعضاء فيها برعاية استقرار الامداد لصالح المستهلكين…الخ، و هو قول حق، إذا ما عمل الطرف الآخر على رعاية استقرار الأسواق البترولية لصالح الطرفين، المنتج و المستهلك معاً، عدا ذلك – كما يحدث اليوم – يجسد باطلاً لا ريب فيه. و لقد كان القول هو ” قول حقٍ “، في إطار عقيدة ” أوابيك ” عندما تقرر خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين الفارط، اعتماد مفهوم ” الاستثمار ” الاقتصادي الموضوعي القائل عموماً بأن: ” الاستثمار هو إنفاق أو إدخار يهدف إلى تحقيق ربح مالي. بل هو جهد رئيس يؤدي إلى زيادة رأس المالي الحقيقي لاقتصاد البلاد و العباد، من خلال تعظيم مردود الاقتصاد الوطني عِبْرَ إنهاض كفاءة أدوات الإنتاج الصناعية و الزراعية و التقنية على نحو مواكب لتعزيز قوة عمل المهارات المهنية و التقنية العاملة المنتجة، و بغرض رفع كفاءة الاعتماد الذاتي الوطنية “. و بناءً على هذا الإدراك للاستثمار الحق، و باستغلال أزمة الانحسار الاقتصادي العالمية و الحقيقة المؤسفة لهبوط السيولة الوطنية ولتراجع أسعار البترول، يمكن توجيه الثناء الوطني – الجنوبي لكل صاحب قرار بترولي ساهم من قريب أو بعيد في إعادة النظر في الاستثمارات المرصودة لديه لتطوير قطاع الطاقة والتنقيب عن البترول، فلقد ساهم هذا التوجه الطيب بخفض ما لا يقل عن 26.6 % من مجمل هذه المشاريع في إطار دول منظمة أوبيك تحديداً. و الجدير بالذكر أن الشركة العربية للاستثمارات البترولية ( APICORP ) قد أكدت على ” تراجع استثمارات الطاقة في الدول العربية بنسبة 19 في المئة من 650 بليون دولار إلى 450 بليوناً “. على أي حال، و خارج إطار “ آلة الامداد البترولية الدائمة ” التي تعمل تحت عباءة إمبراطورية الظلام البترولية، نبقى مع دعم توجه الصناعات الوطنية البترولية الجنوبية في متابعة تطوير ذاتها على النحو الذي يحقق أعلى مستويات ” حفظ المصادر ” و وقف هدرها إرضاءً لرغبات أهل الشمال المستهلكين. كما نثمن كثيراً صعود قدر ” الاستثمارات الصافية ” الجارية، في دول مجلس التعاون الخليجي، من 188 بليون دولار ( حزيران 2008 ) إلى 204 بليون اليوم، باعتبار أن هذا الاستثمار سيقود حقاً إلى رفع كفاءة الإنتاج و زيادة الطاقة الإنتاجية بقدر عشرة ملايين برميل يوميا خلال الأعوام الست التالية. و مع ذلك، فقد تكشفت ردة فعل وكالة الطاقة العالمية ( IEA )، راعية آلة الامداد البترولية الدائمة إياها، عن إشهار ” امتعاضها ” من حدوث هذا ” التقاعس ” كونه يخفض من حجم المعروض من البترول، ويبدي تأثيره على الأسعار في السنوات المقبلة و ذلك عندما يعود الطلب إلى مستوياته الكبرى بعد تجاوز أزمة المال و الركود العالميتين..”. و لا ريب في أننا بانتظار من يردُّ هذا الإشهار بوجه أصحابه أو من يفلح في ” الفرار ” من الآلة الإمبراطورية، علماً بأن: الفرار ” بنظرنا هو ” الهرب مما لم يكن إلى ما لم يزل “.
الدكتور عدنان مصطفى
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
رئيس الجمعية الفيزيائية العربية
profamustafa@myway.com
20/3/2009 2:48:57 PM

التعليقات متوقفه