قَرَارُ الْطَاقَةِ الْعَرَبِيْ: أَمَامَ الْشَاهِدُ الْشَعْبِيُ الْقَدِيْمُ
تم نشر هذا المقال للاستاذ الدكتور عدنان مصطفى وزير النفط الأسبق في سورية في صحيفة تشرين قبيل انعقاد قمة الرياض عام 2007 ونحن بدورنا نعيد نشر هذا المقال الهام قبيل انعقاد مؤتمر قمة الدوحة، ليعرف القراء الكرام، و بخاصة المهتمين في صناعة النفط مدى رؤية الكاتب لطبيعة أشياء صناع القرار العرب .
يَتَلاْزَمُ رسوخ قوة بقاءِ(survival ) و نَمَاءِ (development ) أي مجتمع إنساني مع قَدْرِ وَفْرَةِ مصادر الطاقة الوطنية المتاحة لديه من وقـودٍ (البترول، الغاز الطبيعي…الخ) و كهربـاءٍ (تقليدية، كهرونووية، شمسية…الخ) و غذاءِ( زراعة، تربية حيوانية…الخ) و بحث علمي تنموي عموماً. و يتطلب توثيق هذا التلازم دوماً قراراً وطنياً واقعياً ومتطوراً يعكسُ القدرة السياسية و التنموية الممسكة بزمام البلاد و العباد. و فيما يخص تبسيط إيضاح شأن هذا القرار، عمدنا في مستهل الفصل الأول من كتاب بعنوان «مصادر الطاقة المتجددة في البلدان النامية: نجاحات و فشل تطويع التقنية و نشرها». (تشرفت بتحريره، في مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين، مع صديق كريم هو الدكتور فيدير يكو بوتيرا، الأستاذ في جامعة ميلانو، ايطاليا) إلى تذكير أنفسنا و القراء الكرام بشاهدٍ شعبي عربيٍ قديم (نشره ج. ميزيتِّي في مجلة: Geografia, La Nouva Italia, Firenze, 1983) يحكي ما يلي:
«في غابر الزمان، حكم اليمن الملك النعمان. و كان رجلاً واسع الثراء، نال بحكمته حبُّ الناس في كل مكان. تميز الملك النعمان بسعة عقله و عدم توقفه عند مظاهر الأشياء: فلقد دأب ـ قبل إبداء رأيه ـ على إدراك الأسباب و الروابط الكامنة وراء الأحداث، حتى تلك التي تبدو لأول وهلةٍ متفرقة و متمايزة. لذلك، أحزن الملك النعمان ضيق عقول وزرائه و عدم تبصرهم لأبعد من رؤوس أنوفهم. و ذات يومٍ، قال الملك لأحد أتباعه الموثوقين: «تجوَّلْ في مملكتي مفتشاً ما بوسعك عن جميع المصابين بالعمى منذ ولادتهم، و لم يسمعوا بعدُ بالفيل». نفذ التابع المعتمدُ أمر مليكه ليعود بعد فترةٍ ببعض الرجال البصيرين، الذين ترعرعوا في قرىً جبلية نائيةٍ، و لم يخطر وجودُ الفيلة على بالهم. نظَّمَ الملك النعمان استقبالاً حافلاً دعا إليه كلَّ وزرائه. و في ختام الحفل، صفق الملك لينفتح بابٌ برونزي كبير عن فيلٍ ضخمٍ، اقتيدَ إلى وسط صالة العشاء، ثم تلاه دخول الرجال العميُّ عبر بابٍ جانبي صغير. ووسط ذهول الضيوف، سأل الملك النعمان الرجال المبصرين قائلاً: «هل بامكانكم إفادتي بما يكون عليه الفيل؟. فأجاب المبصرون جميعاً: ” لا يمكننا فعل ذلك لأننا نسمع بهذه الكلمة لأول مرة…». تابع الملك قائلاً: « حَسَنٌ، يقف الآن أمامكم فيلٌ، المسوه، تحسسوه، حاولوا تفهم ماهيته، و الشخص منكم الذي يفيدني بالجواب الصحيح سأجزيه بمئة دينار ذهبي». التفَّ المبصرون حول الحيوان، بدأوا بتلمسه بحذر، متوقفين بين لحظةًٍ و أخرى، لتقليب الأحاسيس التي تلقوها. ضرب أحد المبصرين قدم الفيل الضخمة من أعلاها لأسفلها، فبدا جلدها القاسي المتقرن كصخرة اسطوانية طويلة: فظهر ابتهاجه معتقداً من أنه بات متأكداً من نيل جائزة الملك، فصاحَ: «الفيل عمود». عندها صاح أعمىً آخر قائلاً: «لا، فالفيل بوق»، و ذلك بعد أن لمس خرطوم الفيل الذي حظا فقط باهتمامه. ردَّ بصيرٌ آخر: «لا، الفيلُ حبلٌ»، و ذلك بعد أن تحسس ذنب الفيل. و أصرَّ الأعمى الذي تلمس أذن الفيل قائلاً: «كلا، الفيلُ مروحة كبيرة». أما الأعمى الذي تحسس بطن الفيل فقد ردَّ قائلاً: «أنت مخطىءٌ، فالفيل بالون منفوخ»، و ذلك نتيجة لافتراض كل منهم «بمعرفة» كامل الحيوان من خلال تحسس جانب بسيط منه. شَعَرَ الملك النعمان الحكيم بالرضا، فاستدار نحو وزرائه قائلاً: «إن الشخص الذي لا يحاولُ رؤية الحقيقة من منظورها الواسع، و يقتنع بالمعطيات الجزئية المتفرقة دون ربطها معاً، يسلك سلوك هؤلاء الرجال المبصرين المساكين. و الشخص الذي سيتعرفُ على تغضنات قدم الفيل كلها دون رؤية الفيل كله، لن يعرف البتة أن حيوانا مثله في الوجود» . و الآن، قبل و بعد مؤتمر القمة العربية التاسعة عشرة ـ المنظور عقدها في الرياض (28 ـ 29 آذار 2007) ـ هل سيذكرُ الملوك و الرؤساء و الأمراء العرب» تفصيل تجربة الملك النعمان هذه و هم يصدرون قراراتهم المصيرية الوطنية العربية، و الطاقيُّ منها بخاصة، فيسعد معنا الشعب العربي، بما يتوصلون إليه من حكمة مخلصة و خالصةٍ، من المحيط إلى الخليج؟.
بقلم: الدكتور عدنان مصطفى
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
الاثنين 26 آذار 2007

التعليقات متوقفه