التخلي عن سياسة الدعم ليس بهذه البساطة

تعد السياسات الاقتصادية القطاعية مثل سياسات الخزينة العامة والسياسات النقدية والمالية وسياسات العمل من أكثر السياسات إثارة للجدل بين التوجهات الاقتصادية ورغم كل الحجج الليبرالية بأن السياسات الاقتصادية لاقتصاد السوق هي سياسات محايدة ولها جانب تقني وليس لها جانب اجتماعي أصيل فإن الواقع يدحض ذلك ، فلكل سياسة

جانبان جانب اقتصادي تقني يوسع أو يقلص قاعدة إنتاج الدخل ، وجانب اجتماعي يقلص أو يوسع قاعدة توزيع الدخل الناتج إننا نعتقد أن السوق الليبرالية ليست غير عادلة اجتماعياً وحسب بل هي متطرفة بعدم عدالتها وهي تؤدي لاستقطاب الثروة في أيدٍ قليلة وتؤدي للاحتكار ، وأن التدخل بآليات واعية لا تتعارض المبادئ العامة لاقتصاد السوق تغدو ضرورية وهنا نسوق مثال فمن المعروف أن الحرية المطلقة للمنافسة تؤدي للاحتكار لذا تضع جميع الدول تشريعات وتقيم مؤسسات بغاية منع الاحتكار وتعزيز المنافسة ولكن حدود الاحتكار والمنافسة ضيقة فمع وجود بضع شركات تحتكر السوق يعد أن المنافسة قائمة ، بينما في الواقع يؤدي وجود بضع شركات تحتكر سوق سلعة أو خدمة معينة ، إلى وقوع كامل السوق بأيدي عدد قليل من المالكين الأفراد ، فيما لو كانت الشركات عائلية أو مملوكة من أفراد قلائل وهذا غير مقبول من وجهة نظر العدالة الاجتماعية لذا يجب التدخل كي تكون هذه الشركات أو بعضها مملوكة من شريحة واسعة من الناس كي يعود الدخل لعدد كبير من المالكين الصغار ، إن التدخل في السوق أمر يغدو ضرورة لإقامة مجتمع إنساني يليق بإنسان القرن الـ 21 ، ولن تستطيع الدخول في الكثير من التفاصيل ولكن سنمر عليها بسرعة لإعطاء فكرة وتقديم بعض الأمثلة . فسياسات الخزينة العامة بجانبيها الإيراد والإنفاق: هي تعبر عن سياسات معينة لصالح فئات معينة فسياسات الخزينة العامة في سورية التي طبقت سابقاً كانت تحصل على جزء كبير من الدخل وخاصة دخل النفط (هيكلية الإيرادات) ويعاد استخدامه بآليات (هيكلية النفقات) تعيد توزيع الدخل لصالح الفئات الواسعة من المجتمع وأما اليوم فيتراجع دخل النفط وسيتراجع دخل الخزينة العامة من القطاعات المالية والتجارية بسبب حصول القطاع الخاص على جزء من هذه النشاطات في السوق وسيتراجع دخلها ايضاً بسبب خفض كبير للضرائب ويغدو الحل هو تخفيف أعباء الموازنة بالمقابل عبر التراجع عن سياسة الدعم مما سيكون له أثر سلبي كبير على مستوى معيشة قطاع واسع من المواطنين واستمرار هذا النهج سيدفع الدولة السورية مستقبلاً للتخلي تدريجياً عن الإنفاق على التعليم والصحة ، وهذا فيما لو تم سيكون له آثار اجتماعية سلبية كبيرة إن الخزينة يجب أن تبقى أداة فعالة من أجل تحسين هيكلية الاستثمار والإنتاج من جهة وإحدى أدوات تصحيح اختلالات السوق ونتائجه السلبية على صورة العدالة الاجتماعية، إلى جانب دورها في تأمين المستلزمات المالية لقيام الدولة بواجباتها التقليدية. السياسات الضريبية: هي الأخرى مجال واسع للصراع فالضريبة التي كانت تطبق سابقاً وحتى عام 1992 كانت معادية لرأس المال لأنها كانت تفرض معدل 92 % من الأرباح التي تزيد عن 700 ألف ليرة سورية وهي نسبة مرتفعة جداً استخدمت كحجة للتهرب الضريبي وقد تم تخفيض هذه المعدلات تدريجياً حتى وصلت الآن إلى حدود دنيا تبلغ 14% للشركات المساهمة التي تطرح أكثر من نصف أسهمها على الاكتتاب العام وحد أقصى هو 28% وهي معدلات منخفضة بكافة المقاييس العالمية ، ورغم ذلك مازال التهرب الضريبي واسع جداً ومازالت مساهمة الضرائب المباشرة على الأرباح الحقيقية متدنية وقد ذكرناها من قبل ، وهذا ينضم إلى توجه سورية لتطبيق نفس السياسات الضريبية العالمية وهو التوجه لفرض الضرائب على كاهل المستهلك بدلاً من المنتج الذي يحقق الأرباح أي تخفيض ضريبة الأرباح واستبدالها جزئياً بضريبة المبيعات ، ضريبة القيمة المضافة وخفض الرسوم الجمركية لحرمان المنتجات المحلية من هذه المزية أمام المستوردات من الخارج إن السياسة الضريبية تفتقد لاستراتيجية واضحة والخطوات التي تتم تحتاج دائماً لمراجعة ، والاهتمام على نحو خاص بمكافحة التهرب الضريبي وخاصة من قبل كبار المكلفين ومن غير المفهوم أن تتقاعس الجهات الحكومية عن تفعيل مكافحة التهرب الضريبي بعد أن تم تخفيض الضرائب لحدود منخفضة جداً وأن تتقاعس أيضاً عن مكافحة التهرب الجمركي والتهريب واسعي الانتشار ، إن هذا يحرم الخزينة من موارد هامة ، ونقص الموارد سيدفع الدولة لمزيد من الإجراءات الضارة بصورة العدالة الاجتماعية . سياسات الأسعار ودعمها : تقدم السياسة الليبرالية نموقفاً شيزوفرينياً واضحاً تجاه دعم الأسعار وسياسات الحماية فهي من جهة تقف ضد أي دعم للأسعار وتنسب له كل الشرور ، وتدعو لتحقيق التوازن المالي ( المقدس ) عبر إلغاء الدعم ومن جهة أخرى تمارس هي دعم قطاعها الزراعي منذ عشرات السنين وبمبالغ تزيد عن مئات مليارات الدولارات لأنه يفتقد للقدرة التنافسية وتضع قيود عديدة على مستوردات المنتجات الزراعية والزراعية المصنعة . ويرتفع هذه الأيام ضجيج صاخب حول مسألة دعم الأسعار ولايجد جهابذة الليبرالية سوى توصيات إلغاء هذا الدعم دون أن يقدموا أية حلول ناجعة لمواجهة الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذا الإلغاء، في السابق مارست سورية التسعير الإداري ومارسته لأسباب تنموية اقتصادية واجتماعية لأنه استثمار في البشر لإنتاج قوة عمل مؤهلة صحيحة الجسم ، فمارست دعم خدمات التعليم والصحة والثقافة والرياضة ، ودعم لأسباب اجتماعية سياسية مثل دعم سلع الأساسية مثل الخبز والرز والسكر والزيت والكهرباء والمحروقات ، ودعم لأسباب اقتصادية مثل أسعار الطاقة ودعم الزراعة ودعم لأسباب إنسانية مثل دعم الأفراد ذوي الحاجات الخاصة والأفراد الضعفاء ، وبالتالي فإن سياسة الدعم كان لها أهداف متعددة والتخلي عنها ليس بهذه البساطة بل يتطلب رسم استراتيجية متكاملة للحفاظ علة الدعم الذي لابد منه ، وتقليص الدعم غير الضروري أو الذي فقد مبرراته من جهة ، وتطوير أشكاله ليصيب أهدافه بأفضل كفاءة بما يخفف من الهدر وأن تتخذ إجراءات موازية تواجه الآثار الاقتصادية والاجتماعية لتعديل سياسة دعم الأسعار .

من محاضرة للاستاذ سمير سعيفان – الباحث الاقتصادي


طباعة المقال طباعة المقال

قد يعجبك ايضا

التعليقات متوقفه