أُوبِيكْ وَ إرتِقَابُ العَالَمِ الحَضَاريِّ الجَدِيْد
في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين الفارط، و مع توقد شعلة التحرر الإنساني من ربقة الاستعمار القديم، أبلى حكماء المجتمعات البشرية، المستضعفة و المهانة، بلاءً حسناً عندما قاموا مخلصين بشحذ همم الأحرار في بلادهم.
و حينما بادروا بتحفيز قلوبهم الطيبة وطنياً، أفلحوا في اصطفاءِ نخبٍ شابة مخلصةٍ عملت تأريخياً على رعاية و إدارة و قيادة مختلف مسيرات هذا التحرر باتجاه بقاءٍ /نماءٍ وطنيٍ عزيز. فكان أن وفق معظم تجمعات هؤلاء الأخيار، و المنظمة منها عقائدياً خصوصاً، في تحريك شعوبهم باتجاه مشاركاتٍ متمدنة مخلصةٍ كان لها اليد الطولي في فتح سبلٍ خيرة نحو عوالم اعتمادٍ متبادلٍ حرٍ متميزة. ففي مطلع الستينيات من ذلك العصر مثلاً: و في صبيحة العاشر من شهر أيلول عام 1960، حدث و إلتقى في قلعة صمود المشرق العربي، بغداد، نخبة سياسية – تنموية شجاعة من أبناء إيران، والعراق،و العربية السعودية، و فينيزويلا، و الكويت، ليخرجوا على البشرية بابتكار ” منظمة الأقطار المصدرة للبترول – أوبيك: OPEC ” لتكون بمثابة أداةٍ فاعلة في صنع القرار المصيري للثروة البترولية الدولية عموماً، و في هذه البلدان خصوصاً، و لتحفز الشعوب المالكة لهذه الثروات الاستراتيجية على توحيد سياساتها الضامنة لصنع استقرار الأسواق البترولية الدولية من جهة، و تمكنها من تنسيق استغلال عوائد هذه الثروات في بناء أجيالها و توطيد مختلف أنماط الاعتماد المتبادل بين الشعوب من جهة أخرى. و بذلك كتب هؤلاء الأمجاد، و بمداد من فخرٍ، أحد ابرز صفحات تاريخ وعي البقاء التحرري الوطني – الجنوبي. و لا ريب في أن نظراء هذه النخبة في عصرنا الحاضر، قد تمكنوا اليوم من رفع شعارٍ حضاريٍ متفائلٍ جديدٍ يقول: ” من الممكن العثور على صيغة حضارية جديدة لعالم آخر: another world is possible “، بل هو نفس الشعار الذي أتخذ مجدداً من قبل المشاركين في ” المنتدى الاجتماعي العالمي – World Social Forum” الذي انعقد في مدينة بينيم البرازيلية عند صبيحة الجمعة 30 كانون الثاني 2009.
و قد قامت حروب الخلجان العربية، ما بين خمسينيات القرن العشرين الماضي و حتى اليوم، بتمكين الإمبريالية الظلامية الجديدة من أخذ بعضِ ” الثأر الإمبراطوري البترولي ” لها من الشعوب التي رفعت راية ” أوبيك ” عالياً، حيث كان أفظعها تدمير و احتلال بلاد الرافدين مؤخراً، حيث لا يتسع مقام هذا المقال للدخول في تفاصيل من سيأتي عليه الضرب لاحقاً، فهذه الحروب الدموية – البترولية الضارية لم تفلح في ثني عنان تقدم ” عقيدة أوبيك ” العتيدة من جهة، كما لم تفتَّ البتة في عضد قادة شعوب منظمة أوبيك الصامدين من جهة أخرى ( أنظر مقالات رأينا المنشورة في هذا الصدد، و على سبيل المثال لا الحصر تلك التي تحمل العناوين التالية: ” أوبيك الرهينة: أثمة بشائر تحرير حقة؟ ” – 06/02/2006 ، و ” البترول العربي في زمن الأركان الضائعة ” – 22//04/ 2007، و ” التاريخ البترولي المعاصر: الأحمر و الأسود ” – 22/05/2007، و ” البترول، الحذاء العربي، و الكلاب ” – 17/12/2008 المنشورة جميعاً في صحيفة تشرين السورية العتيدة ). و تأسيساً على خلفية صمود ” أوبيك السياسية ” هذه حتى اليوم، و رغم فجيعتنا الوطنية – العربية الأخيرة بفقد الآلاف من أخوتنا الأبرياء عبر ” المحرقة الصهيونية ” في غزة هاشم، لم يزل يحدونا الأمل في اطراد صمود شعوب أوبيك في وجه الاستقطاب العالي المتعاظم، و في انطلاقة ” قومتها ” المؤملة في مناخ تفكير و تدبير أمم الجنوب راعية ” المنتدى الاجتماعي العالمي – بينيم، البرازيل، 2009 ” ( أنظر في هذا الشأن مثلاً مقال رأينا بعنوان: ” الاستقطاب العالمي: الأحمر و البترولي ” المنشور صباح الأربعاء 4/02/2009 في المواقع الالكترونية المميزة مثل: www.all4syria.org , www.syria-oil.com , www.alfikralarabi.org ). و تحت شعار يقول: ” أ لم يسبق لنا أن أخبرناكم أيها الإمبرياليون: we told you so, don’t we? Imperialists, “، ضمَّ منتدى بينيم – البرازيل ما لا يقل عن مئة ألف إنسان، يمثلون منظمات جماهيرية، و مؤسسات شعبية حرة، و تنظيمات عقائدية سياسية و إيمانية و علمية إقليمية و دولية، وحماة بيئة، و قبائل الأمازون، إضافة إلى رؤساء جمهوريات دول أمريكا اللاتينية، قاموا جميعاً بالتعبير عن مسؤوليتهم الحضارية في التصدي ” للتوحش الإمبريالي الجديد : أي العداء للتمدن “، و تصميمهم الشديد على إخراج البشرية من ” المأزق الرأسمالي ” عِبْرَ مجابهة قوى الاستقطاب العالمي، بل خطيئة الإمبريالية العالمية الآخذة بناصية البشرية اليوم حسب تعبير الرئيس الفينيزويلي هوغو شافيز، و بخاصة في الشأن التنموي الطاقي و البترولي الخطير. و يجمع قادة الفكر و السياسة و التنمية في عالم الجنوب على ضرورة تحصين ” عقيدة أوبيك ” العتيدة، و تحفيزها مجدداً كي تتقدم في مختلف مسارات التنمية البشرية المرهصة اليوم. و في هذا الشأن تحديداً، يرى اعضاء ” المنتدى الاجتماعي العالمي – بينيم – 2009 ” ضرورة بدء التحرك بخطوة مبدئية تنطلق من أفق ” رسم و تطبيق نموذج اقتصادي براغماتي قادرٍ على مواجهة أخطار الانحسار القاهر اليوم “، حيث لا يمكن البتة خسف قدر ” عقيدة أوبيك ” في تزويد هذه الخطوة بالوقود المناسب كي تكمل مسيرة الاعتماد المتبادل بين الناس تحت شمس هذا الكوكب.
و عند ” أسوأ الأزمان الرأسمالية “، التي بلغ فيها عدد العاطلين عن العمل عالمياً حدود 360 مليون إنسان، و لدى ” أفضل الأوقات الإنسانية “، التي انتصر فيها الدم العربي البريء الزكي في غزة هاشم على الإمبريالية التلمودية – الأمريكية و أزلامها في النظام العربي الحاكم، كما يقول المنتدى الاجتماعي العالمي – بينيم 2009 ، لا مناص للبشرية من أن تتصدى، بمنتهى القوة و الذكاء، لشبح الانحسار الرأسمالي – الشمالي العالمي الزاحف اليوم على بقاء / نماء الصناعات الطاقية، و البترولية منها خصوصاً، حيث يمكن لصناع القرار الأخيار في منظمة أوبيك العمل على: إجراءِ تقويم ” لطبيعة أشياء ” تأميم الصناعات البترولية السائدة بأشكال شتى في دول أوبيك هذه، تمهيداً لنزع ” عباءاتها الملوثة حقاً ” و إعادة تصدير ” عارضي أزيائها المغرين جدلاً !!” أولئك المستوردون جميعاً من مؤسسات الأزياء الإمبراطورية، و من ثم المبادرة إلى إلباس هذه الصناعات، و العربية منها تحديداً، ” حللاً وطنية عصرية متقنة “، لا سُحْتَ فيها، سبق أن صممها و خاطها مفكرون جنوبيون ملتزمون باستقلال أوطانهم من أبناء أمم أوبيك الأبرار. و باعتبار أن المرؤة لا تتجزأ، لا بدَّ لصناعات البترول العربية مثلاً من أن تبتكر و تطبق ” نماذج عبقرية متقدمة للتأميم “، تستمد أصولها من أعماقِ، أعماقِ، روح ” عقيدة أوبيك العتيدة “. فمن خلال ممارسة هذه الشجاعة الوطنية – الإنسانية – الحضارية فقط، يتحقق لنا نحن العرب أولا،ً استئصال أصول السيطرة الإمبراطورية الظلامية القائمة و المفروضة بأشكال شتى على صناعاتنا البترولية العربية المستضعفة، فبأي حديث بعده يؤمنون؟.
الدكتور عدنان مصطفى
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
رئيس الجمعية الفيزيائية العربية
profamustafa@myway.com
06/02/2009 06:58:45 م

التعليقات متوقفه