الاسْتِقْطَابُ العَالَمِيُّ: الأَحْمَرُ وَ البِتْرُوْلِيُّ
و قد تكشف الآن وباء” الانحسارُ الاقتصادي – الأخلاقي – المدني ” على نحوٍ حادٍ في عالم الشمال، بات سهلاً إدراك طبيعة ” الإعياء الشديد ” الذي يَسَمَ حال أسواق البترول العالمية من أقصاها إلى أقصاها.
و إذ لم يعد هناك ثمة أدنى شك لدى المفكرين الطاقيين بأن هذا الوباء الإمبريالي القديم / الجديد إنما بات يشكل المحرك الرئيس لطبيعة ” التوحش الإمبراطوري البترولي الظلامي ” السائدة اليوم، لم يستغرب أحدٌ البتة الإشهار الأخير القائل بأنه: ” رغم وجود الترنح القلق في أسعار البترول حول 56 % منذ أفول عام 2008 و حتى اليوم، لم ينخفض معدل ربح كبرى الشقيقات البتروليات الخمس، أي إكسون موبيل و شيفرون مثلاً، عن ستة ملايين دولار في الساعة (!؟) خلال نفس الفترة “. و من جهة أخرى، و بالرغم من ” التكالب الضاري ” لإدارة الرئيس المهزوم جورج والكر بوش في تحقيق المهمة الإمبراطورية البترولية، و مواكبة ذلك ” بتلاحم مصيري ” متعاظم ما بين أزلام كامب دايفيد، و بخاصة أولئك القارُّونَ في قلب ثلاثي: النظام المصري الحاكم و طغمة سلطة أوسلو الفلسطينية و قادة الاحتلال التلمودي – الإسرائيلي في أرض فلسطين المحتلة، لسحقِ المقاومة الوطنية – العربية في غزة هاشم، شهدت أمم الجنوب المستضعفة عموماً انتصارا وطنياً – عربياً مبيناً ليس على محصلة هذه القوة الثلاثية فحسب، بل و على من والاهم في ظلمات النظام السياسي العربي الحاكم، حيث أبصرت البشرية جهاراً ذلك الانتصار الإنساني الشامخ و المضمخ بعبير دماء الكثير من أخوتنا المقاومين الأحرار عند ثغور غزة هاشم خلال الأسابيع القليلة الماضية. و إنطلاقاً من وعي هذه الحقائق المعاصرة، يكاد الإعلام الشمالي كله يجمع على أن هذه الظواهر تشكل جميعاً شاهدا مبيناًً لا ريب فيه على سيادة ” الخَوَرٍِ ” الواضحِ في عزم التوحش الإمبريالي الجديد “. و في مختلف أمصار الريف و الحضر العالمية، يمكن للمرء العادي أن يرصد بكل يسرٍ مجريات هذا الحدث العالمي، ليجدها تتشكل باللونين الدموي و البترولي على صدر واجهات ” خرائط طريق ” الحروب الإمبراطورية البترولية الضارية تحت شمس كوكب الأرض. و باعتقادنا العلمي المتواضع هنا، يمكن عزوَ هذا الواقع إلى حدوث تصلب حادٍّ – لا رادَّ لهُ بأمر الله – في شرايين القيادة الإمبراطورية البترولية الظلامية الكبرى، التي تحاول عبثاً ترسيخ ” ظاهرة الاستقطاب الإمبريالي الجديدة”. و عندما نأخذ هذه القيادة إلى موقع متقدم للعناية المشددة، ” كالمنتدى الاقتصادي العالمي، دافوس، سويسرا، 2009 “، لم ننتظر طويلاً في يوم البارحة ( أي يوم السبت 31 كانون الثاني 2009 )، لنحصل على تقويم طبي دقيق لهذا الإعياء: فلقد كفانا الإعلام الصحيُّ العالمي المختص – الذي يغطي هذا الحدث الإمبريالي الكبير آنياً – مشقة الانتظار، ذلك الذي بادر – و بمنتهى الصراحة و الوضوح – قول كلمات حاسمة مفادها: ” أن ثمة كآبةٌ و ارتباك و شرخ لا ريب فيها تنتاب اليوم روح الإمبريالية الجديدة ليس إلا..، و بالإنكليزية تعبيراً:
Gloom, perplexity, divisions dominate World Economic Forum in Davos,
31 January 2009 “
و بمتابعة وقائع أيام دافوس هذه، تبين لنا أيضاً: كيف انعكس أثر هذه الأعراض المَرَضِيَّةُ الحادة على معنويات ” حكماء بني صهيون ” الذين يديرون دفة هذا المنتدى الإمبريالي – البترولي المثير، ” فأخرجت مثلاً ظاهر أحد كبارهم عن طوره “، أي رئيس دولة العصابات التلمودية – الإسرائيلية السفاح شمعون بيريز، فَرَدَّ بمنتهى الغضب على مداخلة أبداها دولة رئيس الوزراء التركي الدكتور رجب طيب إردوغان حول ” المحرقة الصهيونية ” في غزة. فلم يتوانى السفاح التلمودي شمعون بيريز عن التذكير مثلاً بما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون ( البروتوكول الثامن) حين قال: ” فإذا ما تقاعس الغوييم ( أي غير أبناء الشعب المختار، من أمثال العرب و الأتراك و غيرهم ) عن التعليمات التي تصدر إليهم، فهم إما سيلقون الجزاء و العقاب متهمين، و إما سيغيبون عن الوجود بالمرة (!!!)، و إنما نضعهم هذا الوضع لكي نحملهم على خدمة مصالحنا حتى النفس الأخير من حياتهم …”. و الجدير بالذكر هنا، أن هذا الصلف إنما جاء تحديداً في وجه رئيس وزراء الحكومة التركية، و هو ” يحاول صادقاً عرض حجم مأساة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ” و التعبير بدقةٍ عن ” كآبة المنقلب التلمودي “، الذي ولده انتصار المقاومة العربية – الإسلامية علي هؤلاء الأعداء عند ثغور غزة المرابطة مؤخراً، و ذلك رغم الحضور الرسمي المُنْتَشِي و المَرِحٍ حقاً(!؟) ” لجامعة الدول العربية ” (!؟). و في حينه بدا رد الدكتور إردوغان صارماً و دقيقاً حين خاطب رئيس دولة العصابات التلمودية – الإسرائيلية هذا، فقال حرفياً: ” أعلم سبب رفع صوتك أمامي، فهو نابع حقاً عن شعوركم بالندم على ما اقترفته أياديكم الملطخة بدماء الأبرياء،… و عندما يتعلق الأمر بالقتل، فإنكم أكثر من تفهمونه، فأنا أعلم تماماً كيف تضربون وتقتلون الأطفال على الشواطئ،… حيث حولتم فلسطين اليوم إلى سجن في الهواء الطلق،…. تخيلوا – أيها السادة – أن تسجن “إسرائيل” نواباً للشعب الفلسطيني و بعض وزراء في حكومتها الشرعية ثم تتوقع (من الفلسطينيين) الجلوس طائعين (!؟)، فقتل 1300 إنسان ليس حادثا عرضيا صغيرا أيها الناس،… و أؤكد لكم هنا بأن خصالنا الإسلامية – الإنسانية التي نعتز و نتمسك بها هي أهم من حساب التوازنات السياسية معكم،…”. وبعد أن طلب رئيس الجلسة من دولة الرئيس أردوغان التوقف عن الحديث، بدعوى أن وقت الجلسة قد انتهى، تابع هذا المسئول التركي ” الشجاع ” انتقاده اللاذع لبعض من صفق للسفاح التلمودي شمعون بيريز، فقال الدكتور إردوغان: ” ليس هناك عدالة الآن، والسكوت عن الظلم ظلم… وعار عليكم أيها الناس أن تصفقوا لخطاب من قُتل آلاف الأطفال والنساء بيد الجيش الإسرائيلي في غزة…” . و من ثم غادر الرئيس أردوغان دون عودة جلسات ما وصفه ” بمنتدى الروح الإمبريالية المشروخة في دافوس “. و في إطار هذا المناخ الصدامي العاصف، لم يتردد حكماء الرأسمالية الكبار البتة في بذل النصائح، و بخاصة تلك المنسجمة مع ” وصفة ” وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسينجر (المنشورة مثلاً في صحيفة الغارديان البريطانية مؤخراً تحت عنوان: ” خياران لا ثالث لهما و كلمات حاسمة ” )،التي حثَّ فيها قادة الإمبراطورية البترولية الظلامية على: ” المبادرة بصياغة نظام عالمي جديد، يحل محل عقائد العولمة المتهالكة، و إلا فلا مناص للعالم المعاصر من أن يدخل مرغماً ساح ” نظرية الفوضى: Chaos Theory ” دون رجعة. و أضاف الدكتور كيسينجر ( مستشار الأمن القومي التلمودي – الأمريكي ووزير الخارجية الصهيوني – الأمريكي الأسبق ) قائلاً: ” لا ريب في أن ألاختباء وراء الهيمنة الإمبريالية الأمريكية سيكون مستحيلاً بالنسبة لبقية العالم، و ذلك في ظل الهزيمة الكبرى التي حاقت بالولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً، و لا مناص لأحد من تحمل تبعات الفشل الإمبراطوري البترولي، وعندها لا بد أن نتوقع قيام الدول جميعاً بإعادة تقييم قدر مشاركتها في حلِّ الأزمة العالمية السائدة اليوم… أليس كذلك؟ “. و يخلص بنتيجة ذلك إلى التأكيد على أن ” الطبيعة غير القارّّة للنظام العالمي هي التي تصنع فرصة فريدة للتغيير المنشود، فاغتنموها…”. فهل سيكون هذا التوجيه ممكناً؟. أما الجواب فقد تمَّ إطلاقه على لسان عشرات الآلاف من: المنظمات الشعبية، و المؤسسات الجماهيرية الحرة، و الأحزاب التقدمية الشجاعة، و الكيانات الإيمانية المتسامحة، التي ساهمت جميعاً بقوةٍ في أعمال ” المنتدى الاجتماعي العالمي: World Social Forum”– بل القطب المجابه الآخر ” للمنتدى الاقتصادي العالمي: World Economic Forum ” – و كان جواباً بليغاً حقاً في إيجازه حين قال: ” من الممكن العثور على صيغة حضارية جديدة لعالم آخر: another world is possible ” ، غير هذا العالم الملطخ الآن بالدم و البترول.
الدكتور عدنان مصطفى
وزير النفط و الثروة المعدنية الأسبق ( سورية )
رئيس الجمعية الفيزيائية العربية
02/02/2009 06:38:54 ص
طباعة المقال
التعليقات متوقفه